القول إن الديمقراطية شرط التطور ووسيلته هو قول علمي صحيح أثبتته تجارب المجتمعات الأوروبية السباقة في احتلال مراكز الصدارة في الإنتاج المادي والمعرفي. والصحيح أيضاً أن الديمقراطية من حيث هي شرط ووسيلة للتطور، قد دفعت لقاءها شعوب تلك المجتمعات ثمناً غالياً عبر مسيرة من الضنى كتبت تفاصيلها في صورة ملاحم من التضحيات والمعاناة، إلى أن استقرت في وجدانهم قيمة من أعظم القيم الجامعة للعيش المشترك والرافعة من شأن الإنسان، يدفعون الغالي والنفيس في الدفاع عنها وتطويرها، وغدت عند شعوب الأرض قاطبة مقياساً للتحضر واحترام إنسانية الإنسان. في حين أننا، إذا ما قسنا هذا القول على واقعنا العربي وتلمسنا نتائجه فسوف نفاجأ بأن ذلك لا يعدو أن يكون، على أرض الواقع، شيئاً من مآل متخيل، وضرباً من النفاق والتفنّن في خداع الذات والآخر، عبر خلق مساحات وردية وهمية سهل اختراق ضفافها باتجاه تحقيق الديمقراطية في مناخ يتسم بتراجع وانكفاء قيم الليبرالية التي هي، باعتقادي، تمثل الرئة التي تتنفس بها الديمقراطية، لا يقر المنطق محاربتها إلاّ إذا كان الحديث عن الديمقراطية هو مجرد سلم للتسلق إلى مراكز صنع القرار وكراسي الوجاهة الزائفة، وإلهاء العامة عن القصد الأساس المبيّت من التوظيف المؤقت لها طالما أن الأمور تسير في صالحها ووفق ما تتوسمه من خلاصات نهائية متوافقة مع أجندتها. فأنت، كما يقول رغيد الصلح، «من الصعب أن تكون ديمقراطياً إذا كنت معادياً لليبرالية». ومفهوما الديمقراطية والليبرالية ليسا كمثلهما من المفاهيم النظرية الأخرى ثابتة وجامدة، بل هي، كما يقول المفكر برهان غليون، «تولد ثم تغتني بالمعاني مع الزمن ومن خلال الخبرة العملية التاريخية». إلى جانب غياب قيم الليبرالية، هناك الشقّ الاقتصادي الذي فعل أفاعيله في بيئات اهتزت موازين العدالة الاجتماعية فيها وتاهت المساواة في دائرة الحزب والعائلة، أو الاثنين معاً، بعد أن تفتحت قريحة السياسي العربي. وبالمناسبة، هو في كل الأحوال، من حيث المذهب السياسي، عروبي قومي... أقول تفتحت قريحته في جعل الحزب من ميراث العائلة ولوازم ارتقائها «الديمقراطي» إلى سدة الحكم، وتختفي بذلك الفوارق السياسية بين نظام جمهوري وآخر وراثي، وأضحى الحلم في التغيير شيئاً من مستحيل. وتكرّس التمييز أداة للفصل الحاد بين الطبقات الاجتماعية باتجاه حصر طبقة الأثرياء وموضعتها على رأس هرم تحتل كامل مساحته طبقة من الفقراء الذين يختزنون كمّاً من الغضب المؤجل إزاء عدالة ضائعة ومواطنة منتهكة وحقوق مهدورة وأحزاب رخوة لا تعبر عن حقيقة ما يعتمل في الوسط الاجتماعي، ولا تظهر لحكوماتها إلاّ ما اقترب من طموحها الشخصي واعتلى قائمة مطالباتها النرجسية والقفز على عذابات جماهيرها. فذلك المتجمع من التمييز وضياع العدالة وعدم المساواة أسهم في تدمير الطبقة الوسطى، الحامل الاجتماعي لعملية التحوّل الديمقراطي السلمي. وبذلك فقدت الحكومات العربية فرصة التطور الطبيعي لمجتمعاتها، وتوقفت، حكماً، عن ملامسة التطور المنشود في أنساقها الاجتماعية وهياكلها الحكومية الذي سارت في منعرجاته أوروبا طوال فترة العصور الحديثة، ليستقيم حالها في عيش مشترك متوافقاً عليه، لا يشهد صراعاً على السلطة إلا من خلال برامج أحزابها السياسية التي توصلها شعوبها برضا وسعادة من خلال صناديق الاقتراع. ولعلنا، نحن هنا في البحرين، نستشعر غياب الليبرالية، وخفوت صوتها الوطني، وعجزه عن مجاراة التيارات السياسية الدينية التي وجدت ضالتها في هذا الخلل البنيوي لترسل خطاباتها من خلال ذلك وتؤسس قاعدتها على أنقاض الفعل الهش للقوى الديمقراطية التقدمية الذي من السهل ملاحظته، ورصد خفقاته المتئدة التي أعيتها الملاحقات والمنافي وفتّ في عضدها قانون أمن الدولة سيء الصيت، في مجمل السيرورة الديمقراطية، التي كسبت رهانه، إلى حين، التيارات السياسية الدينية حين خلطت الفعل السياسي فعلاً الإيماني الديني عن سابق نيّة. ذلك أن خلط الفعلين هو شيء من تضبيب للوعي العام يقود باتجاه تمرير الأهداف غير المعلنة، كما سبق وأن أوجدته التجربة الديمقراطية الموؤدة في الجزائر وما أفرزته انتخاباتها التي فازت فيها جبهة الإنقاذ في العام 1990م، والتي هي في وجه من وجوه تشابهها يكاد المشهد البحريني ينطق بها ليحاكي بداياتها الأولى التي قادت جبهة الإنقاذ إلى تحقيق فوزها الساحق آنذاك. فإذا كانت الجبهة قد رفعت هناك، مستنكرة عنوان «انحطاط الأخلاق»، والسفور والتشبّه بالغرب، فها هو المماثل البحريني لتوجهاتها وحامل لواء ايديولوجيتها يدفع، في غفلة مجتمعية ومهادنة حكومية، وسكوت من مؤسسات المجتمع المدني، بمفردات من المماثلات والمتشابهات مثل «السياحة النظيفة» التي لم، ولن توجَد قواميس الاستثمار في متنها مثل هذا المصطلح، والفصل بين الجنسين في الجامعة ومحاربة الفنون بأشكالها، وغيرها من سلسلة الممنوعات والمحرمات التي لن تقف عند حد طالما ظلت طموحات الناس لعبة بين حكومة تريد الحفاظ على آلية العمل القديمة التي تأمن المساءلة والاستجواب، وبين جماعات استمرأت تحقق طموحاتها دون عناء اجتهادي، إلاّ من مداخل دينية عبر البوابة السياسية يقصد من خلالها التفاف على المكتسبات الدستوريّة، ونيّة الإجهاز على الحريّات الشخصية، الشق المهم في البناء الديمقراطي. إن الديمقراطية ليست مؤسسات وتلبية نداء الواجب الوطني في عمليات الاقتراع فقط، ولكنها ثقافة تأتي في القلب منها الحريّات التي، من أسف، أضحت مجالا للمجادلة، في حين أنها قرّت منذ ذلك اليوم الذي صوّت فيه الشعب على الميثاق بنسبة 98,4 في المئة وأقرها الدستور، فهل يحق لأحد بعد ذلك أن يجادل في مسألة الحريّات العامة والشخصية، حتى وإن ارتدت هذه المجادلة أثواب الفضيلة؟ * كاتب بحريني
العدد 1233 - الجمعة 20 يناير 2006م الموافق 20 ذي الحجة 1426هـ