إيران تقتحم المشهد الدولي بقوة هذه الأيام بسبب ما يصر البعض على تسميته بـ «التصعيد غير المبرر وغير الحكيم» من جانبها في الملف النووي. طبعاً، لا ينسى هذا البعض أن يجادل إيران ويعترض عليها أيضاً مواقفها «الراديكالية» من القضية الفلسطينية، ولاسيما بعد تصريحات الرئيس أحمدي نجاد بخصوص المحرقة اليهودية و«زوال» «إسرائيل» من الخريطة الدولية. وأخيراً وليس آخراً، أضيف إلى هذين الأمرين تهمة قيادة «الحلف المشبوه» أو «الدور المشبوه» لأنه قيل هكذا في الصيغتين فيما صار يعرّف بالمحور الممتد من البحر المتوسط إلى بلاد فارس كما ورد على لسان الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، على مدى الأسابيع الأخيرة وهو يجادل ويناكف «حليفه» السابق حزب الله، لست هنا بصدد الدفاع عن سياسات النظام الإيراني في هذه المحاور الثلاثة، وإن كانت اللحظة التاريخية التي نمرّ بها بحاجة إلى مثل هذا الدفاع برأيي ليس فقط من مثلي، بل ومن كل من هو مهتم بقضايا العالمين العربي والإسلامي الاستراتيجية، وسأقول في سياق المقال: لماذا. لكنني أريد هذه المرة كما فعلت في الأشهر الأخيرة على رغم اختلافي في الرؤى مع من يتصدرون ممارسته وتنفيذ السياسات العامة في البلاد، وذلك انطلاقاً من موقع الخبير و«العالم» بما يجري حول إيران وما يُخطط لها دولياً وأيضاً بما تفكر به هي في مواجهة تلك المخططات. وحده الغافل أو المتغافل هو الذي يظن أن إيران بقياداتها المتعددة تجهل ما يُخطط لها أو تتجاهل خطورة التداعيات التي تتركها مواقفها الصارمة والحازمة وأحياناً الجافة أو القاسية أو «الاستفزازية» الصادرة عن أحمدي نجاد أو غيره من المسئولين، وذلك على مختلف أصعدة الحياة العامة الإيرانية في الداخل كما على علاقات طهران الخارجية. وحتى ندخل في صلب الموضوع نقول لمن نسي أو تناسى: إن إيران الحالية تحكم بنظام إسلامي يقوده أو يقف على رأسه علماء دين تقوم عقيدتهم في الحكم كما مشروعيتهم السياسية في البقاء على رأس الهرم السلطوي، فيما تقوم عليه على ما يأتي: أولاً: عدم القبول مطلقاً وبأي ظرف من الظروف وتحت أي شرط من الشروط «الدنيوية» بما فيها شروط «المصلحة» العامة برهن «استقلال» البلاد للأجنبي، لأن ذلك يقوّض المشروعية الدينية التي قام عليها ويستمر بها النظام الحالي. ومعركة النووي تخاض اليوم من هذه البوابة الواسعة، وكل تفصيلة تصعيدية أو تراجعية لا يمكن الترويج لها أو عليها إلا من باب حفظ الكيان العام للبلاد والدفاع عن استقلاله والنأي به عن التبعية للأجنبي في الخطوط العريضة كحد أدنى. ثانياً: لا يمكن تصور نظام الجمهورية الإسلامية الحالي مستمراً في الحياة وهو يعترف بالكيان الإسرائيلي أو يقيم معه علاقات طبيعية لأن ذلك يجعل من بقاء الطبقة الحاكمة الحالية بكل مؤسساتها الدينية التي تعرفها أمراً غير مبرر وغير «مشروع». ثالثاً: إن النص الدستوري الذي ينظم علاقات الدولة والنظام الحالي في إيران مع مواطنيه يلزم القائمين بمهمة تنفيذه وترجمته على أرض الواقع في السياسة الخارجية، بضرورة ووجوب دعم سورية ولبنان والعراق وفلسطين و... إلخ، مادامت هذه البلدان أو القوى الفاعلة فيها تقاوم الهيمنة الخارجية وتكافح دفاعاً عن استقلالها وتعلن تضامنها مع كفاح الجمهورية الإسلامية الإيرانية من أجل التحرر والاستقلال ورفض التبعية. وهنا أريد أن أتجاوز الجانب الوضعي لأعرّج على موضوعة مشروعية الدفاع عن هذه المبادئ العامة من جانب كل عربي أو مسلم، بل وكل أحرار العالم، الأمر الذي يشفع لي عندها ولكل من هو مهتم بالعالمين العربي والإسلامي كما سبق وأشرت، عندما نتصدى للدفاع عن معركة الاستقلال الإيرانية الحالية مهما اختلفنا مع سياسات لها هنا أو سياسات لها هناك، ذلك أن جوهر ما هو مطروح للدفاع أو التفنيد ليس حسن الأداء أو عدمه، ولا معركة تفصيلية هنا أو أخرى هناك، بقدر ما هو مطروح بقاء هذه المبادئ العامة، أي مبادئ الاستقلال ورفض التبعية وحكم اللاعدالة واللاتوازن في العلاقة الدولية أو ذهابها مع رياح النفس الامبراطوري العالمي الجديد المتحالف مع التوسعية الإسرائيلية المتجددة. هل يعني هذا أن كل ما تقوم به إيران وحلفاؤها السوريون واللبنانيون و... هو صحيح 100 في المئة؟، أو لا يجوز نقده أو الدعوة إلى إصلاحه أو تصحيح مساراته؟، أبداً، ليس الأمر كذلك، بل العكس تماماً، أي أن اللحظة التاريخية تتطلب النقد والنصح والإصلاح وضرورة الدخول على خط الترميم، بل وإطلاق المبادرات، والحلول المكملة أو الرديفة أو... ذلك أن من يقوم بهذه المهمات إنما يقوم بمهمة الدفاع عن استقلاله القومي قبل الدفاع عن الآخرين. وهذا يختلف تماماً عن الاكتفاء بموقف المتفرج أو المراقب أو المعلّق أو مواقف إبداء القلق وعرض الهواجس العامة كما لو أن القضية تتعلق بمنطقة نائية في «ألاسكا» مثلاً، أو بخطر طبقة الأوزون، هذا ناهيك عن الانزلاق في منعرجات المناكفات الدولية أو المواجهات التي تعد لشطب صاحب كل مصلحة في معركة الاستقلال الكبرى هذه، تمهيداً لشطب هذه الدولة أو تلك من خريطة التأثير الدولي، كما تم مع شطب الخريطة الفلسطينية من واقعنا العربي والإسلامي قبل نحو 60 عاماً في غفلة تكاد تشبه غفلتنا الحالية. إن ملف إيران النووي لمن ليس لديه اطلاع أو لا يعرف ذريعة يضخمها ويصعّد المعركة بشأنها ما بات يعرف بالمجتمع الدولي تحت ضغط هائل من المحور الأميركي الإسرائيلي، الهدف من ورائها انتزاع «اعتراف» إجباري من إيران بالدولة العبرية والتخلي نهائياً عن مهمة مساندة الشعب الفلسطيني، وهذا هو بالضبط ما يحمله في جعبته كل مفاوض أو مبعوث غربي إلى إيران، سواء كان الحاكم اسمه رفسنجاني أو خاتمي أو أحمدي نجاد، حتى أصدقاء إيران من العرب والمسلمين ممن قاموا بدور الوساطة هم أيضاً يعرفون ذلك بالدقة والتفاصيل. إن إيران بالمقابل تقول لأصدقائها قبل أعدائها أو خصومها إن «بوليصة التأمين» الوحيدة لديها هي وحدتها الوطنية ومدى علاقة شعبها بنظام حكمه، وليس القنبلة النووية لا من قريب ولا من بعيد. وما علاقاتها الإقليمية التحالفية إلا جزء من هذه «البوليصة الشعبية» المشروعة التي تفتخر بها، وهي علاقة لا تنفك مطلقاً عن قضية الدفاع عن فلسطين بخريطتها «الوجودية» وليست الحدودية، ومن دون ذلك اقرأ على إيران الإسلامية السلام، كما يظن العارفون بالأمر هنا. * مدير منتدى الحوار العربي الإيراني
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1233 - الجمعة 20 يناير 2006م الموافق 20 ذي الحجة 1426هـ