كنت فعلاً منشغلاً بالكتابة في موضوع آخر بغية عرضه على القراء الكرام، لكن الجلسة التي جمعتني بوجوه طيبة، ذات حس ديني مسئول ووطني عال غيرت وجهت نظري، فانصرفت عما أكتب فيه لأتتلمذ على تلك الجلسة باستماع وإنصات وانبهار لما كان يدور فيها من نقاش جميل. كان ذلك يوم الثلثاء 17 ذو الحجة 1426 هـ (17 يناير/ كانون الثاني الجاري) في منزل أخي الشيخ حسن الصفار. الضيوف الذين حلوا علينا هم إمام جامع النهضة بجدة الشيخ عدنان الزهراني، ورجل الأعمال الحاج واصف كابلي صاحب منتدى الروضة بجدة، والباحث زيد الفضيل، والأخ عبدالله الزهراني، وعلى شرفهم وكرامتهم دعي لفيف من المشايخ والوجهاء في المنطقة. لقد كان الحديث متشعباً وملامساً لما يهم الوطن والمواطن، وقريباً من تحديات المرحلة والوضع المستجد في المنطقة، لذلك لم يغفل الجميع تلمس الطريق السليم والعاصم من كل هذه التحديات وهو رص الصف وتضييق الفجوة والتحابب بين أفراد المجتمع وأطيافه المختلفة، وهي المسيرة التي بدأها خادم الحرمين الشريفين بملتقى الحوار الوطني وواصلتها المملكة بخطوتها المهمة في مؤتمر مكة. فوائد جمة استفدتها من مائدة الجلسة العامرة بالفكر المسئول والحرية المنضبطة والرؤى الإسلامية الأصيلة المحبة للإنسان والمحترمة لخياراته. سأشير هنا وبشكل خاطف (ومتناثر لا رابط بينه) إلى بعض ما دار في اللقاء من إضاءات أتصورها في غاية الأهمية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن كل إضاءة تحتاج إلى بحث مستقل ومستفيض لأنها تحمل جوهراً فكرياً وثقافياً يتطلب بحثاً هادئاً، وإحاطة تامة وأحياناً تأصيلاً فقهياً لا غنى للمتدينين عنه.
التآخي بدل التقريب
لم يرد في القرآن الكريم لفظ التقريب، وهو المصطلح الذي يتناوله الطرفان سنةً وشيعةً على امتداد جغرافيا العالم الإسلامي، في محاولة منهما لردم الهوة بين هذين التشكيلين المهمين. لقد أثير في الجلسة مبدأ «التآخي» كبديل لشعار «التقريب»، فالتآخي مصطلح قرآني ورد في قول الله سبحانه وتعالى: «إنما المؤمنون إخوة» (الحجرات: 10)، كما أنه العمل المهم الذي نهض به الرسول (ص) في المدينة المنورة حين آخى بين المهاجرين والأنصار، ثم آخى بينه وبين الإمام علي بن أبي طالب (ع). وهو من حيث الدلالة والإيحاء أقوى صدى وأكثر وقعاً في النفس لما لكلمة الأخوة من معاني الولادة من رحم واحد ودم واحد. وهو الوصف الذي يمكن أن يطلق على الشيعة والسنة باعتبارهما متولدين من رحم الدين الواحد، وشأنهما في اختلافهما شأن الاختلاف الحاصل في المذاهب والآراء في كل طائفة منهما. الأخوة تعني النصرة حال وقوع الظلم على أحدهما، كما تعني النصح والتسديد حين يتعدى أحدهما حدوده فيظلم ويعتدي، وهي بذلك تشكل حماية للدين وللحقوق وطريقاً للعزة والكرامة.
القوانين المدنية
في الوقت الذي أعتقد أنني على حق وغيري على غير الجادة، وفي الوقت الذي اندفع فيه بهذا الشعور إلى التعالي وازدراء الآخر، أياً كان ذلك الآخر، مع احتمال قريب وغير بعيد أن يكون هذا الاعتقاد هو ما يربي عليه الآخر أجياله وناشئته أيضاً، في مثل هذه الظروف يكون المستقبل مظلماً كئيباً، وتصبح أمتنا في مهبّ الريح جراء الصراعات التي يمكن أن تنقدح بإرادة ماكر أعوج، لا يدرك مقاصد الدين ولا يفهم روحه، ولا يعي إنسانيته، وسيصبح تفجير المساجد وأماكن العبادة كما يحصل في العراق وباكستان انتصاراً ومفخرة وشجاعة يتغنى بها المعتوهون من الطرفين، السنة والشيعة. فما هو السبيل لرفع الوعي الاجتماعي وحفظه من الوقوع في مصيدة الشيطان، ومستنقع الظلم والتورط في الدماء؟ لقد تقاطع الحاضرون في الجلسة في نقطة مشتركة اعتبروها على رأس الحلول المجدية لهذا الانفلات المحتمل، وهي أن تسعى الدولة إلى سن القوانين المدنية التي تحمي الإنسان وتحفظ حقوقه، ليست الدينية فحسب، بل الحقوق كافة، ما يتعلق منها بالدين وما يرتبط بالدنيا. وأن توجد مجموعة من الروادع العقابية لأي تجاوز لهذه القوانين من أية جهة صدر، وتحت أي مسمى أو ذريعة كان. لقد كانت أوروبا مشتعلة بالصراعات الدينية المسيحية والتي ذهب ضحيتها الملايين من البشر الأبرياء، وقامت على وقعها الكثير من الحروب، لكن القوانين المدنية التي أسستها مدارس حقوق الإنسان وأرست أسسها في المجتمع، وتبنتها الدول في تشريعاتها وقوانينها ساهمت بشكل كبير في الحد من الغلو الديني، وألزمت الجميع بالاحترام المتبادل للإنسان والاعتراف بحقوقه، ومعاقبة المعتدين عليها بقوة وصرامة. ان التحريض على الآخر في المساجد وعلى أعواد المنابر وفي الأماكن العامة، هو جريمة واعتداء على حقوق الإنسان، لابد من تجريم من يقترفها ويروّج لها، ومن ثم جرّه مرغماً إلى العقوبة، من دون أن تأخذنا به رأفة في دين الله، سواء كان من هذا الطرف أم ذاك، لأن أمثال هؤلاء هم من يشعلون النار، ويعبثون بأمن البلاد وسلامة العباد.
الحوار والاحترام
ما ألفناه وعرفناه هو أن يكون الحوار مقدمة للتعرف على الآخر واحترامه، لأنك على أقل التقادير ستعرف ما عنده، وستعذره فيما يرى، فإن لم يكن فستكون مطلعاً على خلفية التزامه واعتقاده وعمله وعبادته، وهذا ما يوفّر المناخ المناسب للاحترام المتبادل وضمان الحقوق بين الأطراف المختلفة. ذاك هو ما عرفناه وألفناه، لكن الشيخ عدنان الزهراني فاجأنا بالجديد المتقدم في الطرح، والرحب في الأفق. لقد أكد في اللقاء أننا مأمورون بحفظ الحقوق لبعضنا، تحاورنا أم لم نتحاور، فأنا منهيٌ في القرآن الكريم عن الظلم والاعتداء والجور على الآخرين، أياً كان هؤلاء، مسلمين أو غير مسلمين، لكن لست مأموراً بالحوار، وفي رأيه أن آية: «وجادلهم بالتي هي أحسن» (النحل: 125)، تعني إن جاءوا لجدالك فجادلهم بالتي هي أحسن، لكنها لا تعني الذهاب إلى جدالهم ومحاورتهم. أنا مأمور في نصوص القرآن بالعدل والإحسان والإنصاف والاحترام للآخرين، سواء وضحت لي أفكارهم أم لا، وسواء علمت دليلهم أم لا، وسواء كانوا على حق أم لا. بقي أن أقول إن مملكتنا مليئة بالأنفاس الواعدة، والقلوب الطاهرة الطيّبة، والتشدد هو الصوت المرتفع وليس الجوهر والحقيقة لهذه البلاد. * كاتب وعالم دين من المملكة العربية السعودي
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1233 - الجمعة 20 يناير 2006م الموافق 20 ذي الحجة 1426هـ