ربما يبدو العنوان الفرعي تجريدياً في قسم منه أو مجمله، ويبدو سريالياً موغلاً في سرياليته أو متاهة لغوية كما هي عند اللغويين العرب، ولكن الحقيقة التي دعتني لاختيار هذا العنوان ليس لها اتصال بكل ذلك، فقصة الموضوع بدأت حين رأى «راء شين» ألا يُذكر أسمه المتفق عليه منذ لحظة ولادته التي لم تكن باختياره، لكي لا تأخذ القضية منحى شخصياً بحتاً بل لتشمل كل من ينطوي تحت عذاب هذا الإشكال النفسي، الذي هو معضلة من معضلات العصور جميعها وليس مقتصراً على العصر الحديث. «راء شين» إنسان في مقتبل العمر، طموح، جاد في عمله شاءت الأقدار أن يرتحل والده عن بلده الأم إلى بلد آخر ضمن دول الخليج (طوعاً أو جبراً لم نخبر بذلك) ويتزوج من ذلك البلد ويكتسب جنسيته وينشئ عائلة تترعرع فيه. هذه الحال منتشرة وخصوصاً في دول الخليج العربية دون استثناء. «الأولاد كبروا» وتعلموا وقرر بعضهم العودة إلى جذور العائلة، وإلى أبناء العمومة، كونهم يعتبرون قرار والدهم التخلي عن جنسيته وقبول جنسية الدولة الأخرى شأناً شخصياً ناتجاً عن قناعة شخصية، أو قسراً لظروف سياسية لا دخل لهم فيها، ولا يمنح دولتهم الأصلية الحق في إسقاط جنسيتهم عنهم حتى وإن تخلى والدهم عنها، فهم يستحقونها طبقاً للقوانين. ففي اعتقادهم أن من واجب الدولة الأصل أن تمنحهم فرصة حق تقرير المصير والاختيار بين الموطنين.
مفهوم المواطنة
وقبل الخوض فيما إذا كان ما يطالب به أمثال «راء شين» قانوناً وشرعاً يجب أن نعطي صورة موجزة عن مفهوم المواطنة واكتساب الجنسية منذ أن عرفها الإنسان حتى يومنا هذا. فشكل المواطنة اختلف من عصر إلى عصر، ففي «الحاضرة اليونانية» يرتبط «المواطنون» «بعلاقة وجه لوجه في جماعات قليلة العدد وهم يتقاسمون ديناً مشتركاً ويجتمعون في ساحة الحاضرة ما يستبعد النساء السجينات في المدى المنزلي (...) ولديهم الوقت الحر (بفضل الأرقاء والنساء)، وليسوا منقسمين بين محترفين وهواة» وهم في آن واحد «وبالتناوب حكاماً ومحكومين»، تلك كانت بداية تشريعات المواطنة. اختلفت التشريعات والقوانين، فاليوم تختلف صور المواطنة من بلد إلى آخر، ويتمثل أرقاها بالنسبة إلى في الولايات المتحدة الأميركية وما يماثلها في أماكن أخرى، أوروبية أو آسيوية. ففي قوانين تحديد شكل المواطنة يشترط أن يكون المواطن «وفياً لمجموعة سياسية شرعية واحدة» ويعطي الأولوية «للمصلحة العامة» ويفضلها على «المصلحة الخاصة» وإذا ما انتفت هذه الشروط تسقط المواطنة. لكن ماذا تعني هذه المواطنة التي تعتمد الوفاء وتفضيل المصالح العامة على الخاصة شرطاً لها؟ نوجزها كما ترد في أدبيات كثيرة: «الحق الفردي المتساوي لجميع من يحملون هذه الصفة في تقرير مصير الوطن» ويشدد البعض على «المصير السياسي» خصوصاً إلى جانب شكل الحكومة، سياستها العامة، التمتع بخيرات الوطن وإنجازاته، الدفاع عنه في الشدائد وعن استقلاله وتقدمه ورقيه. ويشدد محمد سيد سعيد على التأكيد بـ «أن المواطنة حق فردي يمارسه الناس باعتبارهم أشخاصاً ذوي وجدان وعقل وكرامة مستقلين بأنفسهم عن أي مزاعم تجميعية تنكر هويتهم الفردية أو حقهم الأصيل في الحديث عن أنفسهم والتعبير الحر عنها بوضوح ومن دون تنازل مسبق أو ثابت». وبذلك يعني «أنه لا تستطيع حكومة أو مؤسسة سياسية أو أية مؤسسة أخرى، أو طائفة أو طبقة أو جماعة إقليمية أو إثنية أو قومية مهما تكن صفتها أن تزعم ممارسة حقوق المواطنة بالنيابة عن الأفراد المنضوين تحت لوائها بالصفات الارثية أو بوكالة عرفية أو بمزاعم تاريخية أو دينية أو أية مزاعم أخرى». بمعنى واضح أن المواطن في الوطن يحمل شهادة سهم في «ملكية الوطن»، مثله مثل أي مواطن آخر مهما يكن انتماؤه. والمواطنة بالنسبة اليه «مفهوم أو امتياز قانوني فردي يترتب تلقائياً كحق لمجرد الميلاد في دولة هي تجسيد سياسي لمعنى الوطن» وهي كحق قانوني لا «ترتهن» بشروط «ثقافية أو سياسية أو تعليمية». والمواطنة هذه «مفهوم يرتبط على نحو عضوي وغير قابل للفصل بالديمقراطية السياسية والقانونية». ولا يكون المواطن مواطناً حقيقياً إلا في «مجتمع ديمقراطي» أما في مجتمع غير ذلك فلا يعدو كون «الناس أفراداً وجماعات مجرد سكان يتمتعون في أفضل الحالات بحقوق الجنسية أو الانتماء السياسي أو العقيدي، من دون الحق القانوني في المشاركة في تقرير مصير الوطن». والمواطنة الحق يذكر انها «تقتضي» «مستويات متعددة من الحقوق والواجبات». أهمها المساواة «بحماية القانون» الذي «ينظم طريقة وشروط حصولهم على الجنسية أو المواطنة» مع الأخذ في الاعتبار اختلاف المفهومين. يذكر أدريس ولد القابلة في المغرب أنه من الناحية الإسلامية ترى «أن السياسة في الإسلام من الأمور المخوّلة إلى نظر الخلق، وهي تدور مع المصلحة الشرعية، وتظل محكومة بالمقاصد الكلية الجامعة». وعليه وبمقتضى «أصول المعاملة والتعامل مع غير المسلمين» ترى ان العقيدة الإسلامية لا ترى ان «العقيدة» «شرط من شروط المواطنة في إطار الدولة الإسلامية». فبإمكان الوطن أن يحيا حياة عظيمة بأبنائه مهما اختلفت عقائدهم وأفكارهم. ويرى سليم يونس الزريعي الواقع شعبه تحت نير الاحتلال أن «المواطن» هو «القيمة الأسمى والأعلى والأرقى» وعلى الأوطان أن تحرر إرادة هذا المواطن «من أي ضغط سياسي أو فكري أو اقتصادي أو اجتماعي أو أمني ناهيك عن قهر الاحتلال» وعندما يتحرر هذا المواطن الذي هو «المكسب الحقيقي» تبرز عنده روح المسئولية «التامة والشعور بالضرورات التي تفرضها شروط المواطنة المخلصة تجاه الوطن وحقوقه في الحفاظ على ثرواته الكبرى». ومن كلمة للرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة يذكر فيها انه هو شخصياً والمجتمع الجزائري قاطبة من رجال ونساء وأطفال يأملوناً في «بناء جزائر المستقبل» وذلك عن طريق «ثلاثين مليون من البناة والمدبرين المقتدرين المؤهلين إخلاصاً وأمانة وكفاءة» مترسخة في وجدانهم «المنهجية الوطنية» التي تعمل «على توظيف نشر الحق والعدل والإخاء والمساواة. أي كل شروط المواطنة الصالحة التي لا تستوفى إلا بوجود الأسوة الحسنة وجوباً في قيادة البلاد من قاعدتها إلى قمتها». وإذا ما انتفى وجود ذلك يذكر الرئيس الجزائري «تعذّر تعميم العيش الكريم بين الجميع وبناء مجتمع الأمل والمحبة والخير». نصل بهذا إلى قانون «الجنسية» أو الأسس المتعارف عليها غير المبنية على قانون التي بموجبها تمنح دولة ما جنسيتها لرعاياها أو للذين يرغبون في الانضواء تحت رايتها متخلين عن جنسيتهم الأصلية أو جامعين بينها وبين الجنسية الجديدة. فقد أكد حكم صادر عن «محكمة العدل الدولية» في أبريل/ نيسان العام 1955 يقضي بأن «الجنسية هي علاقة قانونية ترتكز على رابطة اجتماعية وتضامن فعلي في المعيشة والمصالح». من هنا نعي أن حمل جنسية أي بلد يقوم في الأساس على روابط اجتماعية مثل الزواج أو القربى (رابطة الدم)، أو المصالح وعلى رأسها المصالح الاقتصادية، كحاجة البلد إلى خبراء يرتقون بها إلى مستوى أرقى ويساعدون مواطنيها الأصليين على الرقي الحضاري وربما المادي أيضاً.
بين عنصر الدم والتراب
ومن أكثر العناصر التي يؤخذ بها في منح الجنسية في بلاد عدة يأتي عنصر الدم «الأصل العائلي»، إذ لا يؤخذ بمكان الميلاد ولا يكون له أي اعتبار في منح الجنسية كما هو معمول به في مختلف البلاد العربية. ويأتي من ثم عنصر التراب (أرض المولد)، إذ تمنح الجنسية لكل مولود ولد على الأرض التي ولد بها دون الأخذ في الاعتبار جنسية الوالدين، أي عنصر الدم كما هو حاصل في دول كثيرة متقدمة من بينها الولايات المتحدة واستراليا التي لا تطلب ممن اكتسب جنسيتها التخلي عن جنسيته الأصلية (عند بلوغه سن الرشد يمكن للفرد المولود على أرض ما أن يختار بين جنسية المولد «عنصر التراب» التي اكتسبها أو جنسية والديه الأصلية «عنصر الدم»). هنا سنورد صورتين عربيتين لقانون الجنسية المنصوص عليه في الدستور، الأولى من الجزائر، إذ يسمح القانون الجزائري بمنح الجنسية لكل فرد «ولد لأب أو أم جزائريين» أو «لأبوين مجهولين» أو في حال «معرفة الأم فقط» و«الأطفال المسعفين». الصورة الثانية من دولة الإمارات، إذ ينص القانون على انه «تكتسب الجنسية بحكم القانون أو بالتبعية أو بالتجنس» وفقاً للقانون الاتحادي الصادر العام 1972 الذي ينص على اعتبار «العربي المتوطن في إحدى الإمارات الأعضاء العام 1925 أو قبله الذي حافظ على إقامته العادية فيها حتى تاريخ نفاذ هذا القانون. وتعتبر إقامة الأصول مكملة لإقامة الفروع». ولا نعرف ما إذا كان هناك غير عرب مقيمين في دولة الإمارات قبل هذا التاريخ لا يحق لهم اكتساب الجنسية ومازالوا على تلك الوضعية حتى يومنا هذا. كما ينص القانون على أنه يحق للابن «المولود في الدولة أو في الخارج لأب مواطن في الدولة بحكم القانون» أو «من أم مواطنة بحكم القانون ولم يثبت نسبه لأبيه». أو «من أم مواطنة بحكم القانون ولأب مجهول أولا جنسية له» أو «المولود في الدولة لأبوين مجهولين». كما يجوّز القانون منح الجنسية للعربي من «أصل عماني أو قطري أو بحريني، إذا أقام في الدولة بصورة مستمرة». كما يحق لهم وحدهم الترشح والانتخاب وتبوء المناصب العليا في الدولة، إذا مضى على حملهم الجنسية 7 سنوات، كما تمنحها إلى «أفراد القبائل العربية الذين نزحوا من البلدان المجاورة إلى الدولة وأقاموا فيها». كما «يجوز منح جنسية الدولة لأي عربي كامل الاهلية إذا أقام بصورة مستمرة ومشروعة». كما «يجوز منح جنسية الدولة لأي شخص كامل الاهلية إذا أقام بصورة مستمرة ومشروعة». كما «يجوز منح جنسية الدولة لأي شخص كامل الأهلية إذا أقام بصورة مستمرة ومشروعة في الإمارات الأعضاء مدة لا تقل عن 30 سنة»، كما «يجوز منح الجنسية لأي شخص قدم خدمات جليلة للدولة من دون التقيد بمدد الإقامة المنصوص عليها في المواد السابقة». قدمنا هنا صورتين مختلفتين لقانون الجنسية في بلدي
العدد 1232 - الخميس 19 يناير 2006م الموافق 19 ذي الحجة 1426هـ