حين ينتهي الأمر في القضايا المذهبية إلى الإيمان بالنسيان أكثر من الذاكرة يُصبح سلوك الناس أكثر اتّزانا. وحين يصُرّ البعض على العيش في جوف النّص التاريخي لأحداث تاريخية وجوهرية دينية مذهبية يتحوّل الفضاء العام إلى فضاء قَلِق.
في بحر شهرٍ منفرط وقفت على ثلاثة مصاديق لموضوعات تلامس حسّا مذهبيا وطائفيا تقاسمتها ثلاث جهات. هي بالتأكيد لا تعكس ظواهر ناجزة بالكامل لكنها تبقى مجسّات على الأرض حتى ولو تشكّلت على مستويات فردية.
فالمنطقة يجرّها بعض مجانين السّياسة والفكر نحو حرب طائفية مفتوحة تقوم على حفظ بيضة أديان ومذاهب نقيّة، اختلط في الدفاع عنها حابل الدين ونابل اللائكية دون أن يفهم أحد كيف هو السبيل إلى تفكيك ذلك الضّم العسير.
في إحدى طرائف الانتخابات النيابية الكويتية الأخيرة بعث أحدهم بـ SMS لناخبي الدائرة الأولى يقول فيها: إن عائلة النائب (الفائز عن المقعد الشيعي) فيصل الدويسان تقول لابنها «خَلَّ يِنْفَعُونكْ الشِّيعَة»!
ولأن الدويسان هو مُتحوّل من التسنّن إلى التشيّع فقد استنفر ذلك المسج ناخبي تلك الدائرة، فانتقلوا بقضّهم وقضيضهم إلى صناديق الانتخاب وأعطوا الرجل أزيد من 9943 صوتا، متقدما بذلك على أغلب نوّاب الشيعة التاريخيين كعدنان عبدالصمد وحسن جوهر وصالح عاشور فضلا عن أحمد لاري الذي لم يَفُزْ!
في حادثة أخرى ضمن ذات السّياق شنّت صحيفة عربية تنقع في الابتذال هجوما عنيفا على عريس الفنانة اللبنانية هيفا وهبي (وهو بالمناسبة مصري الجنسية)، والسّبب في ذلك أن هيفا فتاة شيعية المذهب!
ليس ذلك بالتأكيد سوى قلح أسنان ينفث ريحا كريهة. فهذا السّعي الحثيث نحو تحويل الأفراح والأتراح معا إلى مناسبات يتناجز فيها الجميع ضد الجميع دون أن يُدرك أحد مَنْ كانَ مع مَنْ ومَنْ كان موفدا من قِبَلِ مَنْ كما يقول غابرييل ماركيز. إنها حقا كلطخة القوَباء في الجلد.
حادثة أخيرة دارت رحاها بين القيادي البارز في جماعة الإخوان المسلمين ومسئول العلاقات الخارجية في الجماعة المهندس يوسف ندا (الذي يعيش في سويسرا) وبين عضو مكتب الإرشاد بالجماعة محمود غزلان.
النّقاش الذي كان على مستوى (تراشق حاد) خَلُصَ إلى أن غزلان اتّهم المهندس ندا بأنّه يُروّج للمذهب الشيعي، في حين ردّ ندا على خصمه بأنه «صاحب فكر قشري»، ليخرج لاحقا مُرشد الجماعة محمد مهدي عاكف ويقول إن ما قالاه (ندا وغزلان) من تصريحات مع وضد الشيعة تعبّر عن آرائهما ولا موقف للجماعة تجاه ذلك الخلاف.
هنا يُصبح الأسف على ذلك مأسوف عليه أيضا. فالتّمثّل الفكري والثقافي وحتى الديني بذلك الشّكل هو تفاهة. وقتال لصالح عصور انصرمت أيامها. ومات شخوصها أو استُشهِدوا. وبالتالي فإقامة الحصون وتسريج الخيول لإقامة معركة بلا مُسوّغ هو استغراق في السّديم.
أكبر الإشكالات اليوم هي في إحالة التفصيل المُفصّل داخل الدين على السياسة. ثم تقوّس المصالح على حوافّ تلك التفصيلات، لتتآزر لاحقا في حلف تكاذب يضمّ المُنتفعين بُمخرجات الدّين والسياسة والمصالح معا.
والأكثر خطورة وألما أن الخلاف المذهبي اليوم تخطّى المخالفين في العقيدة، واتّجه نحو عصبية قبلية، حتى أصبح العلماني والليبرالي الشيعي رافضيا بمجرّد كونه ينتمي بالعرق لعائلة شيعية!
وأصبح السُّنّي القومي والشيوعي، كارها لأهل البيت بمُجرّد كونه ينتمي بالنّسب لعائلة سُنّية، دون افتراض مني أن يكون السُنّة لا يُحبّون آل النبوة الذين تسالمت على محبّتهم أغلب الفرق الإسلامية.
المطلوب اليوم ليس التّماهي والذوبان في مذاهب هي متنافرة من الاتّحاد، ومتّحدة نحو الخلاف. غاية الأمر ومنتهاه أن تهجع كل طرق الوصول إلى حالة وضع الإصبع على الزّناد. وإن وُجِدَ ما يُشجّع على غير ذلك في بطون الكتب فما الضّير في تحييده.
ماذا لو اتّبع الشّيعة خباء المداراة على أقلّ تقدير؟! حين «يكون المطلوب فيها نفس جمع الكلمة ووحدتها بتحبيب المخالفين وجرّ مودتهم من غير خوف ضرر» (انظر الرسائل للإمام الخميني 174). فذلك أضعف الإيمان.
وماذا لو اتّبع السّنة قول «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، بحسب امرئٍ مسلم من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه». فهو قول مُلزِم.
التاريخ يُعلّمنا. فلقد تعاركت مشاريع الكثلكة مع البروتستانتية منذ جيمس وتشارلز الأول، وأُحرِقَ من أحرِق على يد الرهبان كما السياسيين الكرومويليين ولم تتبدّل أحوال الطوائف المسيحية، ولم تتآكل هياكل الأقليات فيها لصالح غلواء الأكثريّة، فذلك دونه شيب الغراب.
لا يستهينُ أحدٌ بحبّة رمل تُثار في الطائفية والمذهبية. فحبّات الرمل قد تتحوّل إلى رمال، ثم إلى رياح عاتية، ثم إلى جائحة لا تُبقي لأحد شيئا. وبالتالي فإن صَدَرَ قولٌ هنا أو تصفيق هناك في حادثة مذهبية لأقوام أو جماعات، فإن ذلك حتما سيتحوّل إلى دفوع تُحرّك رايات هامدة. اللهم إني بلّغت.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2451 - الجمعة 22 مايو 2009م الموافق 27 جمادى الأولى 1430هـ
علوش
لو كنت تقرأ سيرة رسول واهل بيته لما وصفت هيفاء وهبي بالشيعية ، هل تعرف معنى الشيعي او تعريف كلمة شيعة ؟