لعل أحد إبداعات الإنسانية يكمن في تحويل «المعارك» التي تعتمد العنف إلى «معارك سلمية» تعتمد على الحوارات وعلى الانتخابات وعلى تداول الأمر في الشأن المشترك. .. وعليه، فإن ازدياد حمى الانتخابات داخل الجمعيات، وعلى المستويات الأخرى، ومن ثم الاستعداد لانتخابات بلدية ونيابية، كل ذلك يعبّر عن مدى التحضر الذي وصل إليه مجتمعنا البحريني. لا بأس بالاختلاف في وجهات النظر، ولا بأس بالمعارك الانتخابية، ولا بأس بـ «الضجيج» الناتج عن كل هذه العمليات... لأن كل ذلك علامات الصحة والسلامة الوطنية. فالبديل عن ذلك هو السجون والعنف والقتل وتبذير الثروات في كل ما يدمر ما حققه الإنسان. المعارك السياسية السلمية لها أصولها ولها لاعبوها ولها مشاهدوها، تماماً كما هو الحال مع المعارك الرياضية، مثل كرة القدم... ونحن بحاجة إلى أن نتدرب كمجتمع على كل ذلك بحيث يمكن أن يخرج من بيننا القادة والمفكرون، وبحيث يتمكن المجتمع من انتخاب من يمثلهم إلى فترة محدودة، ضمن عملية محددة الأطر والأساليب. قد نختلف حول ملفات معينة، سواء كانت دستورية أو معيشية، ولكن الاختلاف يجب ألا يكون مانعاً من الدخول في المعترك السلمي على أساس «خذ وطالب»... خذ ما هو حق مشروع، وطالب بما هو حق مشروع. المعارك السلمية التي تدور في الحـــوارات والمنتديات والانتخابـات مادامت تلتزم بأخلاقية عدم الشتم فإنها مفيدة للجميع... مفيدة لمن يطرح رأيه، ولمن يتم انتقاده، وهو يعبّر عن «تدافع» سلمي وحضاري يدفع بالمجتمع نحو الإبداع، ونحو النمو، ونحو إيجاد الحلول لمشكلاته التي يعاني منها. إننا مازلنا في بداية الطريق بالنسبة إلى الاحتراف في العمل الحزبي العلني، وربما أن القوى السياسية تتحرك بصورة عامة على أساس الانتماء الطائفي، وبعد ذلك الانتماء للاتجاه داخل الطائفة... لا بأس بذلك في بداية الأمر لكي تنضج الأمور وتتحرك بصورة طبيعية خارج هذه الأطر. فالأوروبيون كانوا أيضاً كذلك، ومازالت بعض مناطقهم تسير على مثل هذه الانتماءات كما هو الحال في شمال إيرلندا، التي تتحرك عمليتها السياسية على أساس «طائفي». ولكن مع الأيام تتحول الحركات إلى النهج الديمقراطي الأكثر نضوجاً. ولذلك، فإن هناك أحزاباً «مسيحية ديمقراطية»، وأحزاباً «اشتراكية ديمقراطية»، وأحزاباً «ليبرالية ديمقراطية». فالمسيحيون استطاعوا تطوير نشاطهم ضمن أطر ديمقراطية يتداولون فيها السلطة مع الاشتراكيين ومع الليبراليين. وهذا لم يحصل بين يوم وليلة، وإنما احتاج إلى دورة من التجارب التاريخية أنتجت أطراً أكثر انفتاحاً من القبيلة ومن الطائفة ومن الإثنية. على أنه وحتى إن وجدت تكتلات تعتمد الأسس المذهبية والقبلية والإثنية أساساً، فإنها لا تعتبر تهديداً كبيراً إذا كانت تحترم أسس التعددية وتعمل ضمن إطار الوطن الواحد. ففي بلجيكا هناك انقسام «إثني» بين شعب «فلاندرز» في الشمال يتحدث لغته الخاصة، وشعب «والونيا» في الجنوب يتحدث اللغة الفرنسية... والإثنيتان متوحدتان ضمن إطار دستوري فيدرالي واحد، واللغتان رسميتان في كل المعاملات الفيدرالية، ولا يوجد ضرر من ذلك، لأن هناك اتفاقاً وتداولاً سلمياً في الأمر. إنني من المؤمنين بضرورة أن تتحرر العملية السياسية من الانتماءات الطائفية والقبلية والإثنية، ولكن في الوقت ذاته لا يمكن اعتبار أي من هذه الانتماءات خطراً، إذا التزمت بعملية ديمقراطية سلمية... وهذا هو شأن جمعياتنا السياسية الرئيسية، التي نأمل أن تقود جماهيرها نحو الاحتراف السياسي الذي يبني الأوطان
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 1231 - الأربعاء 18 يناير 2006م الموافق 18 ذي الحجة 1426هـ