العدد 1231 - الأربعاء 18 يناير 2006م الموافق 18 ذي الحجة 1426هـ

القصة القصيرة شكل من أشكال التعبير والتغيير معاً

الباحث والقاص المغربي محمد الريحاني:

الرباط-محمد سعيد الريحاني 

تحديث: 12 مايو 2017

حين ينتهي المسار الطويل المنهك إلى المأزق الواضح المعالم، يبدأ التفكير والحلم بمسار مغاير وأفق أفضل. وهذه هي مهمة القصة: إعادة تشكيل العالم وإعادة تفسيره وإعادة تجديد الرؤية وإعادة رسم المجرى للحرية الانطلاق والركض... لأن القصة القصيرة تبقى بحثاً فنياً عن معنى الوجود وسعياً حثيثاً للإمساك باللحظة المنفلتة وإيقاف الصور والذكريات الهاربة أبداً وتخليدها. المعنى العميق للوجود قد يكون في اللحظة الهاربة من حياتنا وقد يكون أيضاً في العوالم العجائبية الأخرى إذ أسلوب النقل هو بساط الريح أو المكنسة السحرية... وهاتان هما الخابيتان اللتان تنهل منهما القصة القصيرة مادتها: خابية الذاكرة وخابية المخيلة. ومن الصعب أن يتوافر الاثنان في قاص واحد بالدرجة نفسها. فقد كان محمد شكري يغرف من خابية الذاكرة في غالبية نصوصه القصصية بينما أوفى أحمد بوزفور لخابية المخيلة.أما عن مواضيعها فتتنوع بين الهوية والمغايرة والحب والحرية والحياة والبراءة والحوار والسلطة والموت والهجرة... إن القصة القصيرة شكل من أشكال التعبير والتغيير معاً. فالقصة القصيرة كلمة، والكلمة صورة، والصورة مشروع حياة. لذلك، فالكلمات والصور والأحلام تصبح أشياء واقعية حقيقية إذا ما واكبتها إرادة التحقيق والرغبة في الإنجاز. إن القصة القصيرة الواعية تفتح الخيال على نوافذ جديدة وتنتج عوالم جديدة وتشيع مثُلا جديدة وقيما جديدة... أما عن الموقف من الوجود في القصة القصيرة فيمكن استكشافه من خلال تشريح هذين التعريفين للقصة القصيرة: «صرخة» و«ومضة». «فالقصة ­ الصرخة» تفجر موقفاً سياسياً أو ثقافياً أو اجتماعياً معلناً وتشحذ الهمم وتعبئ القراء سعياً إلى توسيع دائرة التأييد عبر قراءة نص «يفترض» أن يكون فنياً. و«القصة ­ الصرخة» هذه هي سليلة الأدب الملتزم والعمل الثوري والتعبئة الآنية للمعارك القريبة المدى باستهداف فئات عريضة من القراء... أما «القصة ­ الومضة» فتركز على «تصوير» لحظة هاربة ثم تضمنها المواقف والرؤى لإيقاظ القرارات في القارئ. والفارق بينها وبين «القصة ­ الصرخة» انها تستهدف تغيير القارئ وليس التغيير بالقارئ. ولذلك فـ «القصة ­ الومضة» ليست سليلة العمل الثوري ولكنها سليلة العمل التدرجي.... لكن في الحالتين، تبتعد القصة القصيرة عن أن تكون «شكلاً خالصاً» مثل الموسيقى أو الرقص أو التشكيل. القصة القصيرة مضمون يعبر عن جوهره بشكله، أو هو شكل يعبر عن مظهره بجوهره. ليس من الحكمة أن يخفي القاص مادة تواصله مع القارئ حين يصبح الأمر موضوع تحليل... في الشعر، كانت هناك محاولات لردم هذه الهوة بين الشكل والجوهر فابتكر الكاليغرام «فٌىهْف م» الذي اشتهر به الفرنسي أبولينير «ءٌُِِىَفىْم»، والأميركي إ.إ. كامينغ (م.م.كِّ ىَه) ويرجى أن تعرف القصة المنحى نفسه لمعالجة المضمون بالشكل والشكل بالمضمون. 1)­ القصة القصيرة مساحة صغيرة لإعادة تشكيل الحياة: النور يصبح أقوى حين يركز مجموع أشعته على مساحة صغيرة لكنه يصبح ضباباً إذا اتسعت دائرته... وعلى غرار ذلك، فضيق الحيز في القصة القصيرة أساسه الاحتفاظ بمنظور سردي واحد، عكس الرواية التي تشتغل على مناظير سردية قد تفوق العشرة كما في روايات ويليام فولكنر إذ نقرأ الرواية الواحدة بلسان شخوصها الحاضرين والغائبين، العاقلين والحمقى، الصغار والكبار... القصة القصيرة هي مساحة إبداعية تشتغل على أداة واحدة بمسميات متعددة: التكثيف، الرمزية، التركيز، الإيجاز، الصورة الوظيفية... وهذا ما يجعلها قصيرة ورقياً لكنها لا نهائية قرائياً. فعند الشروع في قراءة قصة قصيرة، يضيع القارئ في عوالمها تماماً كما قد يضيع القاص المبتدئ في تدفقها ويفقد القدرة على التحكم في خيوطها... القصة القصيرة مساحة صغيرة لإعادة تشكيل الحياة. ولذلك، فالمهم هو توافر القاص على تجربة حياتية (½مادة الحكي) ورؤية للوجود (½وحدة الموضوع) ومهارة في السرد (½تمكن من أدوات السرد والوصف والحوار). 2)­ الكتابة بـ «المجموعة القصصية» عوض النصوص الفردية المتفرقة: قارئ أعمال الروائي الأميركي أرنست هيمنغواي يستطيع بسهولة رصد أسلوبه المتميز بجمل بسيطة قد تطول أحياناً بسبب ميله الظاهري إلى استعمال «واو العطف». والمتتبع لأعمال الأديب والفيلسوف الفرنسي ألبيرت كامو يقرن بين الرجل وأعماله وجمله القصيرة جداً. والمقبل على روايات الكاتب الأميركي ويليام فولكنر يستعد مسبقاً لقراءة جمل طويلة متحررة من قيود القواعد والخوف من ارتكاب الأخطاء مادامت مجرد أفكار في رؤوس الشخوص الروائية... السائد، إذن، هو أن الأسلوب هو الرجل. لكني اعتقد أن نصوصي ضد النمطية، ضد كل أشكال النمطية لأدبي ربط نهائي وزواج أبدي يعرف فيه هذا بذاك. إن امتلاك مشروع جمالي ونظري لكتابة القصة القصيرة مسألة حيوية تكسب الإبداع القصصي وعياً جمالياً أخاذاً وخلفية ثقافية عميقة. وأعتقد أنني، ككاتب تجريبي، أسير في هذا الطريق. 3)­ القاص الحقيقي يعلم أن بداية النص ونهايته تنتظره في ذهن القارئ: النص القصصي هو بنية فنية تتكون من مجموعة من المتواليات التي، تحت التصحيح وإعادة الإنشاء، تفترض إعادة كتابة النص برمته ثانية وثالثة ورابعة إلى درجة يصعب معها تذكر المسودة الأولى للبداية الأولى... النص القصصي المكتوب هو انعكاس أو صورة للنص القصصي الخام في دواخل الكاتب. وفي هذا السعي للتطابق، يكتب النص مرات ومرات ويجرب بدايات ونهايات يصعب معها، في آخر المطاف، تذكر البداية الأولى والنهاية الأولى. فالنص لا يبدأ على الورق حتى ينضج في داخل الكاتب وتكتمل خيوطه... والقاص الحقيقي يعلم أن بداية النص ونهايته تنتظره في ذهن القارئ. وتأسيساً على ذلك، فالقاص الحقيقي ليس ذاك الذي يبذر وقته في الانضباط لشكل قار من البدايات والنهايات ولكن القاص الحقيقي هو من يضع نصب عينيه «انسجام النص مع ذاته» و «احترام حرية القارئ»: جمالية العرض القصصي وقدسية حرية القارئ. لا مكان للنمطية، إذن، ليس ثمة نموذج أمثل لكل البدايات والنهايات. فلكل بدايته المتفردة ولكل خاتمته المتميزة إذا كانت حركيته الداخلية تقتضي تلك البداية وتلك النهاية. من حيث المبدأ، «البداية» توظف لتقديم خيوط الحكاية للقارئ. أما «النهاية» فتوظف لتقديم المغزى من الحكاية أو استخلاص الموقف من الوجود في النص. غالبية النصوص الباحثة عن الوحدة العضوية والحبكة المنسوجة تبدأ من نهايتها وتتقدم عكسياً بحثاً عن بدايتها عبر متواليات قصصية تضمن لها ذلك التطور السلس... والنص القصصي التقليدي يندرج ضمن هذه الفئة من النصوص: «النصوص النامية». أما النوع الثاني، «النص التأملي»، فلا يدخل في حساباته تطور المجريات ومهارة الحبكة. فالبدايات بالنسبة إليه ليست ذات قيمة، المهم هو إيقاف الزمن الهارب والاستمتاع باللحظة التي كانت دوماً هاربة... الفرق بين النوعين هو فرق بين «نص نام» متفاعل يرتكز غالباً على المحاكاة و«نص تأملي» انعزالي صوفي. وداخل كل نوع يتناسل التفرد والاختلاف بحيث يصعب تحديد البداية والنهاية الملائمة للنص قبل نية إعداده للنشر. 4)­ ما بين احتراف القصة القصيرة وتجريب الأجناس الأدبية الأخرى: الكتابة تبقى كتابة غايتها إما تغيير العالم وإعادة تفسيره في حال الحماس والاندفاع وإما الاستعاضة عن الشعور بالعجز عن ذلك التغيير في حال «فتور» تلك الحماسة وذلك الاندفاع من فرط تكبد الهزائم والاحباطات. لكن الكتابة، سواء كانت إبداعاً أو نقداً أو متابعة أو بحثاً علمياً، تبقى تلبية لدافع خفي قوي نضج بما فيه الكفاية في أعماق الذات وصار يطرق الباب طالباً الخروج «للتحقق» من دون اعتبار للتخصص الإبداعي والتفريع الأجناسي والمعرفي... والقصة القصيرة، بنفَسِها القصير وميلها إلى التركيز والإيجاز والتكثيف والإيحائية، أتاحت لي هذه الفرصة: فرصة المساهمة في تغيير العالم... ولو على الورق، لكن ثمة أجناساً إبداعية أخرى تنتظرني كالمسرح والمذكرات والرواية. فلقد بدأت حياتي الأدبية بكتابة مذكراتي في سن السادسة عشرة من العمر قبل أن تستهويني قراءة الرواية والمسرح والشعر. أما القصة القصيرة فكانت مسك الختام. ولدي مخطوطات تنتظر النشر باللغتين العربية والإنجليزية في مجال المذكرات والسيرة الذاتية والرواية أهمها: «قيس وجولييت» وهي رواية باللغة الإنجليزية، و«بطاقة هوية» وهي سيرة ذاتية روائية، و «يوميات معلم في الأرياف» وهي مذكرات كتبت ما بين 3991 و6991,,. كما أنني أنشر بحوثاً علمية في مجالات أسعى من خلالها إلى تطوير رؤيتي الإبداعية وتوضيحها: دراسات في الأغنية، «رهانات الأغنية العربية»، ودراسات في العلامة والرمز «الاسم المغربي وإرادة التفرد»، التي اعتبرت أول دراسة سيميائية للاسم الفردي العربي... وأعتقد أن كتّابا آخرين كانوا يراوحون بين الإبداع والتنظير مثل إ.م. فورستر ورولان بارت وجون بول سارتر وأمبرتو إيكو.... وأملي أن أساهم في بلورة مدرسة مغربية في القصة القصيرة وما ذلك بعسير. 5)­حقول اشتغال القصة القصيرة ومواقفها من الوجود: القصة القصيرة تشتغل على ثنائيات متقابلة: الوجود والعدم، التطور والثبات، الفعل واللافعل، الواقع والمثال، الحياة والموت ، القول والفعل، الوضوح والغموض، اليقين والشك، الاستقرار والتيه، الانفتاح والتطرف، الفرد والمجتمع، الحب والكراهية، الحرب والسلم، المنطوق والمسكوت عنه... ومن خلال هذه الثنائيات، ينتصر النص القصصي لأحدهما على حساب الآخر مفصحاً عن موقفه من الوجود وعن خلفيته الإيديولوجية وسنده السوسيو ­ ثقاف





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً