لطالما يشار إلى الولايات المتحدة أنها «إمبراطورية قرصنة»، بمعنى أنها نتاج مجموعة من المهجرين «المجرمين»، هربوا من قيد العدالة في أوروبا، ليحاولوا إنشاء أرض تضم المجموعة المنشقة من أحضان أوروبا الخيرة. وإذا كانت مجموعة القراصنة الشيطانية تمخض هروبها التاريخي عن قيام إمبراطورية كالولايات المتحدة بما هي عليه اليوم، فلعلنا عربياً بحاجة إلى شيء من هذه القرصنة الأميركية، ولقد كانت تلك تهمة «حمقاء» أولى. التهمة الثانية هي أن الولايات المتحدة الأميركية إمبراطورية «مجتمع لا تاريخ له»، أي أنه لقيط مزيف، لا يمتلك تاريخه. وفي جزئية التاريخ هذه الكثير من الإشكالات الكبرى، فالتاريخ السياسي الأميركي الطويل، وعمليات الصناعة الإنسانية الاجتماعية والسياسية في التاريخ الأميركي، إذا ما مزجت مع مفردات العالم الجديد، سيكون عندها الحديث عن «التاريخ»، وواحدية التاريخ لأية دولة «كلاماً فارغاً». البحرين مثلاً، تتكون من أجناس متعددة، وأعراق مختلفة، فهل هي منظومة اجتماعية تمتلك «تاريخاً واحداً» وبلد صغير كالبحرين حين تمتلك «تواريخ» متعددة، يكون هذا إيجابياً وسلبياً في الوقت نفسه. الأميركيون استطاعوا أن يصنعوا «وطناً» هويته الحلم، وقوته البقاء على مرتكزات تشكلت اليوم في طابع تاريخي محدد، له معالمه. اعتقد ان البحاثة أصبحوا يتحدثون عن «الأميركي» بصفة واحدية، أكثر ما يتحدثون عن الإنسان البحريني، فعن أية سلسلة تاريخية حضارية يتحدث البحرينيون، وعن أية نتيجة ما أنتجتها هذه السلسلة التاريخية المزعومة؟ البحرين تمتلك خاصية التعدد التاريخي بإيجابية في الكثير من الأوجه، وكذلك الأميركيون، فهم يمتلكون تاريخ «فردية»التأسيس في سياق «الحلم الفردي» وعنفوانه وطموحاته، وهذا ما لا يستطيع كل فرد أن يتنبه له. الأميركيون من خلال تجربتهم الاجتماعية صاغوا تشكلاً اجتماعياً ثابتاً، وهذا التشكل له روحه التاريخية الملاحظة في مجمل الخطاب السياسي والإعلامي الأميركي. وعلى أي حال، للتاريخ إشكالات أخرى أكثر خصوبة للبحث والتدقيق. ولعل التاريخ العربي والإسلامي حافل بمثل هذه الإشكالات التي تجعل العرب والمسلمين حين يتحدثون عن التاريخ «بتشدد»، فهم أشبه بالشيخ الذي يمشي عارياً في طريق مزدحم بالمارة، فعن أي تاريخ «يتبختر» هؤلاء، ليست الولايات المتحدة ضربة حظ، بل هي نتاج إنساني معرفي مهما اختلفنا على توصيفه وتحديده. طبعاً لهذه التجربة إخفاقاتها ونجاحاتها، إلا أنها تبقى في حقيقتها حقيقة الإنسان نفسه، بسقطاته وتراجعاته، بصعوده وهبوطه، بقوته وضعفه، ببدايته ونهايته. هذا الهوس بالتاريخ، هوس تبريري، هوس مفاده الإقناع الداخلي بتفاهة ما لا يستطيع الإنسان العربي تفنيده أو تدميره، أو حتى فهمه. في التاريخ السياسي الحديث، أميركا تمتلك الصدارة، فهي أول منظومة اجتماعية صنعت دستوراً سياسياً لأفرادها. بل هي أشرفت وساهمت في صناعة أكثر دساتير دول أميركا الجنوبية والدول الإسكندنافية والإفريقية. للأميركيين تاريخهم، وسواء كان هذا في حيز الفهم العربي أم خارجه، فهذا لا يعني بالضرورة أن تكون سلسلة الأوهام في الإعلام العربي حجة إلى وقت أكثر ما كانت عليه، المجتمع اليوم يعي أكثر ما نكتب له. وقارئ اليوم، يعرف أكثر ما نعرف. وهيمنة الإمبراطورية الأميركية على الاقتصاد الدولي والكيل بمكيالين، والانتقائية في نشر الديمقراطية، ومصلحة المصانع متعددة الجنسيات، ليست أسراراً، أو إكتشافاً جديداً. المشكلة، أننا مازلنا نكتب إعلاماً وقراءات سياسية وتحليلية لا تحترم وعي القارئ.