العدد 1229 - الإثنين 16 يناير 2006م الموافق 16 ذي الحجة 1426هـ

مذكرات حمار

منذ عرفنا الحياة ونحن مجتمع الحمير متمسكون بعاداتنا وتقاليدنا وقوانيننا لا نحيد عنها قيد أنملة. والحمار الذي يحيد عن هذه القوانين منا طوعاً أو جبراً يلاقي صعوبة ليس مثلها صعوبة في كل شيء بدءاً من صعوبة في أكل العيش أو التحدث إلى المجتمع الحميري أو الاجتماع بهم أو حتى تأمين مكان للنوم والاحتماء به من غضب الطبيعة وشرورها، بكلمة صريحة يصبح منبوذاً جملة وتفصيلاً. هكذا وجدنا أباءنا وأجدادنا الحمير ونحن على خطى سيرتهم سائرون. وقد يصاب بعضكم بالدهشة حين يقرأ كلمة «سيرتهم» مسطرة هنا على رغم أن القانون الحميري كما هو يمنع كتابة السير الحميرية منعاً باتاً. وقد جاء في القانون الحميري الصادر يوم عرف بنو حمار الكتابة والقراءة في عام الحمار الأعور أن اكتب ما تشاء من شعر موزون أو غير موزون اكتب قصة طويلة أو قصيرة كما تحب، هذا شأنك، اكتب في التاريخ الأسود والأبيض اكتب بطريقة مفهومة أو غير مفهومة فكل الكتابات في اعتقادنا نحن الحمير تتحول مع الزمن إلى كلام غير مفهوم وتحتاج إلى قواميس ومعاجم وخبراء حمير في فك طلاسم اللغة الحميرية التي كتبت بها تلك القطعة النثرية أو الشعرية في الأزمنة الغابرة. مع هذا التصريح بالكتابة في كل شاردة وواردة جاء منع كتابة السير الذاتية على الحمير: «يمنع منعاً باتاً كتابة السير الذاتية على كل حمار بالغ، راشد» وكل من يخالف هذا القانون يطرد من مملكة الحمير إلى غير رجعة» لم يأتي في كتاب القانون الحميري لم صدر هذا المنع ولا فقرات تفسيرية له. بعض المتمرسين من الحمير في عادة الحمير قال: إن سبب المنع هذا يعود إلى أن أحد الذين أراد كتابة سيرته الذاتية تطرق بالاسم إلى حمير وأتن وجحوش كان حرياً به ألا يذكرهم أساساً ضمن خبرته الحياتية أو حتى أن يرمز لهم. آخرون قالوا ان سبب المنع هو في نشر فضائح لا صدقية لها. لم يصل لنا أي من السير الحميرية تلك لكونها صودرت وتم إتلافها أمام نظر جميع الحمير التي كانت موجودة آنذاك. غير أني ولغريب الصدف بينما كنت أدلل جحشة صغيرة كحيلة العينين متناسقة الحوافر رشيقة القوام مكتنزة الجحفلتين طويلة الأذنين قصيرة الذنب عثرت على لفافة ورقية ظهر جزء صغير منها إلى حيز الوجود كانت مدفونة في أرض الزريبة، وفي حال رؤيتي لها ضربت بقوة وقسوة سطح الأرض بحوافري حتى صنعت حفرة عميقة حول اللفافة وأخرجتها بأسناني بلطف حتى لا تتمزق وفردتها أمام الجحشة الصغيرة التي كانت عيناها جحظتا وبدتا وكأنما تريدان الهروب من مكانهما وبدا اللعاب يسيل من بين طرفي جحفلتها متعجبة من سلوكي هذا. ومن دون الالتفات إلى الحال التي كانت عليها الجحشة نهقت بصوت مسموع عنوان اللفافة: «مذكرات حمار» والدهشة مطبوعة على محياي فقلت بيني وبين نفسي إنه لكنز ثمين عظيم أن أعثر على مذكرات حمار وإن هذا الكنز ربما يرشدنا إلى سبب الحال الحميرية المتدهورة التي وصلنا إليها وبه نجد العلاج الناجع لحالتنا. وقد قرأت ما جاء في اللفافة بنهيق مسموع حتى أتأكد من أن ما أقرأه هو فعلا (مذكرات) حمار وهو فعلا ما تسمعه الجحشة معي وليس حلماً من الأحلام ولكي تكون الجحشة شاهدة على ان اللفافة (المذكرات) هي ليست لي وبذا أبرئ ساحتي من أي اتهام قد أتهم به: «نحن الآن في عام الحمار الأعرج عام ضنك العيش وقسوة الطبيعة نعيش في زريبة ما أحلاها من زريبة الكل متعاون ويعمل من أجل الكل» ملابسنا لا نغيرها أبداً ولا نظهر بمظهر مغاير لمظهرنا أبداً، فكل حيوان له سماته وخصاله. فالدجاج يبيض وينام على بيضه المدة المعلومة ويتجول مع صغاره من دون أن يصيبه مكروه من أي حيوان ولا يخاف أن يأكل بيضه أحد أو أن يأكل الصيصان الصغار أحد ما» الديكة هي ألأخرى تقوم كل صباح تنادي بصوتها وتتمختر في الزريبة بين الدجاجات ولا يصيبها مكروه أبداً» الخرفان والتيوس والقطط والكلاب والفئران على عادتها منذ عرفناها تطارد بعضها بعضا ولم تفلح معها أي طريقة لإصلاح ذات البين بينها، القطط و الكلاب ظلت على حالها تعيش فوق الأرض وعلى مرأى من الجميع تتحارب ليل نهار هذا ينبح كلما رأى قطاً وتلك تَمُوءُ كلما رأت كلباً، فقط الفئران المسكينة لكثرة خسائرها الفئرانية لافتراسها افتراسا تنعدم فيه الرحمة من قبل القطط حفرت لنفسها حفراً ودفنت نفسها فيها لا تخرج منها إلا إذا غابت القطط عن الزريبة أو حل الظلام الدامس ونام الجميع. القطط و الكلاب مثلنا نحن الحمير لا يمسهم مكروه أو يُغيبون أو يُنحَرُون فلذا نراهم معنا دائماً في الزريبة لفترة طويلة ويصبحون معلماً من معالمها حتى يغيبهم الموت الطبيعي» غير ان الخرفان والتيوس والدجاج والديوك والبقر تراها معنا اليوم تعيش بسعادة ثم فجأة لا تراها أبداً. أين تختفي؟ لا أحد يدري. وكثيراً ما سألت الحمير الكلاب التي معها في الزريبة عن سبب اختفائها لعلم الحمير أن للكلاب أنوفاً تشتم بها كل رائحة عفنة كانت أم عطرة. كانت الكلاب على الدوام تبقي الأمر سراً. جميع الحيوانات التي ذكرتها سابقاً تترك صغارها إذا كان لها صغار في الزريبة وتوصينا عبر صياحها بأن نعتني بها ونفعل ذلك برحابة صدر ظنا منا إنها ستعود، غير انها لا تعود ويحدث الأمر نفسه لتلك الصغار بعد أن تكبر أو حتى قبل أن يشتد عودها في بعض الأحيان. هكذا دواليك خرفان وتيوس ودجاج وديكة وبقر تولد وتختفي من الزريبة ولا يعلم بمكانها أحد أبدا. فقط الثيران كانوا مختلفين في أمور عدة عن بقية الحيوانات التي عرفناها في الزريبة فنحن لا نرى الثيران تعيش معنا في الزريبة أبداً عبر التاريخ الحميري، فهي تعيش في مكان ما سري للغاية» نعرف أن الثيران يؤتى بهم من أماكن بعيدة جداً ويحتفل بقدومهم منذ اللحظة الأولى التي تطأ حوافرها الزريبة ويقدم اليها أشهى العلف، صحيح انهم يقادون من أنوفهما لكن بشيء من الاحترام ويدللون ويقدم لهم البقر التي بدورها تتدلل كثيراً حين ما يقدم ثور من الثيران إلى الزريبة، شيء غريب يحدث عندما يؤتى بالثيران إلى الزريبة فجميع الأطفال البشر يطردون من الزريبة ويمنع عليهم الحضور حول الزريبة لساعات عدة» مازلنا نحن الحمير لا نعرف سبباً لطرد الصبية البشر من الزريبة حين تزورنا الثيران، الحيوانات المتسلقة كثيرة عندنا في الزريبة ولا نعرف سبباً لكثرة هذه الحيوانات المتسلقة على كل شيء ولا نعرف فائدة تذكر لهذا التسلق الأعمى فتراها تتسلق الشجر وتتسلق الحيطان وأحياناً كثيرة تتسلق الحمير وخصوصاً في الجانب النافر من مؤخرة الحمير. أبناء عمومتنا الخيول على عادتها جميلة جداً رشيقة القوام جاحظة العينين قصيرة الرقبة جميلة الذنب وبها شيء من الغرور وهذا من حقها، غير انها ليست ذكية إلى تلك الدرجة فنحن الحمير أذكى منها ويعود سبب ذكائنا المتفوق على أبناء عمومتنا الخيول إلى الطريقة التي نسير فيها في الحياة فنحن الحمير نسير في الطرقات والأزقة على مهلنا ونمعن النظر في كل ما حولنا في حين أن أبناء عمومتنا الخيول ومنذ اليوم الذي عرفناهم فيه في سنة الحمار ذي الذنب القصير وهم ينطلقون بأسرع ما يمكن أن تكون السرعة فلا همّ لهم إلا الوصول إلى النقطة التي تهفو قلوبهم إليها: خط النهاية. الذكاء يتطلب دقة في الملاحظة وانتباها كبيرا هذا ما وعى له أجدادنا الحمير في حين غفل عنه أجداد أبناء عمومتنا الخيول. أسرار زريبتنا كثيرة وغريبة وتكمن الخطورة ليس في تدوين هذه الأسرار وجعلها في متناول أجيال الحمير القادمة حمير المستقبل فذلك ليس صعباً جداً على الحمير إنما الصعوبة تكمن في إخفائها بعد تدوينها ونشرها من بعد بين الحمير. المشكلة الأخرى ان الحمير لم تتجرأ بعد على وأد هذا القانون المجحف ومازال الخوف يسيطر على حياتهم ولن نعرف إلى متى ستظل الحمير خائفة من أن تغير أبسط شيء من قوانين تقيد حياتها وتقتل روح الإبداع لديها. كما ترون هنا فإني لم أذكر الحمير بسوء أبداً في هذه السيرة إلا أنني خائف من نشرها لسبب ذلك المنع الذي احتوته صحيفة قوانين الحمير في عام الحمار الأعور. لا أود أن أطيل في هذه اللفافة حتى تبقى سهلة الطي والدفن ولكي لا تثقل على أي حمار يحاول قراءتها عبر القادم من الزمن». انتهت هذه اللفافة من مذكرات حمار بكلمة: «يتبع». فتشت كثيراً في الزريبة عن لفافات أخرى من مذكرات حمار غير ان جميع محاولاتي باءت بالفشل الذريع وفشلت معها محاولات الجحشة الصغيرة التي كبرت الآن وأصبحت أتاناً يشهد لها بين جميع الأتن والتي حملت معي سر لفافة «مذكرات حمار» حتى لا نتهم كلانا بأننا اخترقنا هذا الحظر الحميري ونعاقب على فعل لم نقترفه إطلاقاً





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً