تمسكت كلمة «مخابرات» في ذهن المواطن العربي بنمطيتها الرتيبة في عكس معان سلبية لا تخرج على مفردات الحكم البوليسي ومشاهد الاعتقال والتشريد، حتى غدت علامة في ضباب الوضع الاجتماعي والسياسي المرتبك في عالمنا العربي، الذي لم يعد يفرق بين المهنية والمسئولية والابتزاز، ثم تجاوز منسوبها المغلوط لتصبح تلك المفردة دثاراً لحروف ترتجف وكلمات تغيب في روايات وقصص وسير المعتقلين السياسيين الذين يبدأون برسن ذاكرتهم قبل أن تبور، حتى اجتهدوا في استخلاص المسميات الرديفة لعنوان شؤم مرفوض اسمه «مخابرات» فنعت رجالها مرة بـ «زوار الفجر» ومرة بـ «كلاب الصيد» وهي جميعها تعكس حالات متباينة لأوضاع متفقة. ومنذ سنة 3400 ق. م وهو العام الذي عرف فيه علم التجسس والمخابراتية عندما أرسل المصريون القدامى 200 مسلح في أكياس للقمح على متن سفينة إلى مدينة يافا للاستيلاء عليها، أو ما فعله الإغريق من وشم رسائلهم على جلدة رؤوس العبيد، وابتكار الشفرة، ثم العهود التي تلت ولحين كتابة هذا العمود، لم تتغير النظرة إلى رجل المخابرات وبالذات في عالمنا العربي الذي عاش ومنذ ما قبل مرحلة الاستقلال وإلى يومنا هذا جولات متعاقبة ومتلاحقة من الصراع السياسي مع الأنظمة الحاكمة التي بدا أن هدفها المطلق هو الاستمرار في الحكم بأي شكل كان. وبما أن هذه الأنظمة فشلت في تدعيم أسس ومصادر شرعية وتطوير ذاتها ومؤسساتها وسياساتها لتتمكن من استيعاب القوى الجديدة الراغبة في المشاركة في السلطة والحصول على نصيب من الثروة والنفوذ» فإنها لجأت إلى استخدام القوة لضرب القوى التي تمثل تحدياً لها، الأمر الذي أفضى إلى مشهد دموي رهيب غطته الحوادث الجسام التي كانت مشتعلة في مناطق متعددة من العالم العربي كالحرب العراقية الإيرانية والصدامات الحدودية العسكرية التي وصل متوسط الصراع فيها إلى 115,68 في المئة. فخلال حقبة الثمانينات وتحديداً لغاية العام 1985 تشير الأرقام إلى أن 16 دولة عربية أصدرت 2727 حكم إعدام وأن هذه الدول شهدت 109 مظاهرات و104 ما بين حوادث شغب وتمرد و69 محاولة انقلاب و297 حملة اعتقال (جزئية، محدودة وشاملة) وأثبتت الدراسات أن هذه الحصيلة من القمع هي نتيجة طبيعية لمعادلة: حرمان اقتصادي « وعي اجتماعي ½ اضطراب اجتماعي. وفي دراسة توصيفية مماثلة ذات صلة لسيغلمان وسيمبسون أشار إلى أن هناك ارتباطاً قوياً بين المستوى العالي من الدخل وانخفاض أعمال العنف السياسي. إضافة إلى ما يحدثه الخلل في توزيع الثروة من اضطرابات اجتماعية وتفاوتات في المستويات المعيشية الأمر الذي يؤدي إلى الشعور بالتمييز والحرمان وشياع المحسوبية. ويشار إلى أن الفجوة في العالم العربي تبلغ 20 مليار دولار، فمثلاً وحسبما أشار إليه تقرير «المؤشرات الطبقية الجديدة في جمهورية مصر العربية» فإن هناك 50 فرداً في مصر تبلغ ثروة كل واحد منهم ما بين 100 إلى 200 مليون دولار وأن هناك 100 فرد تتراوح ثروة كل واحد منهم ما بين 80 و100 مليون دولار، و150 فرداً تتراوح ثروة كل واحد منهم ما بين 50 و80 مليون دولار، و220 فردا تتراوح ثروة كل واحد منهم ما بين 30 و50 مليون دولار، و350 فردا تتراوح ثروة كل واحد منهم ما بين 15 و30 مليون دولار و2800 فرد تتراوح ثروة كل واحد منهم ما بين 10 و15 مليون دولار، و70 ألف فرد تتراوح ثروة كل واحد منهم ما بين 5 و10 ملايين دولار. وتشكل هذه الأرقام تشكل كوة في باب واسع لنماذج مماثلة لا يباينها إلا حجم الأرقام بالزيادة أو النقصان، وبالتالي فإن تصفير مثل تلك القضايا في عالمنا العربي بات ملحّاً إلى الحد الذي لم يعد يحتمل أية تراكمات، بل إن شعارات تداول السلطة والفصل بين السلطات ومبدأ سيادة القانون والمشاركة الشعبية في صناعة القرارات التي لاكتها الألسن حتى اهترأت يجب أن تفرض نفسها الآن كأمر واقع لأن حاجتنا إليها باتت مسألة حياة أو موت. * كاتب بحريني
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1228 - الأحد 15 يناير 2006م الموافق 15 ذي الحجة 1426هـ