في السادس من يناير/ كانون الثاني الجاري شهد القصر الملكي في الرباط، حدثاً لا سابق له. فقد استقبل الملك المغربي محمد السادس أعضاء هيئة الانصاف والمصالحة برئاسة السجين السياسي السابق ادريس بن زكري، والمئات من ضحايا مرحلة ما يطلق عليه المغاربة «سنوات الجمر والرصاص» وأهاليهم، ويأتي هذا اللقاء بعد أن أصدرت هيئة الانصاف والمصالحة تقريرها النهائي ونشرته كاملاً. وقد تشكلت هيئة الانصاف والمصالحة من رئيس و16 عضوا ثمانية منهم من المجلس الأعلى لحقوق الإنسان وثمانية يمثلون الضحايا وممثلي المنظـمات الحقوقية والخبراء. وانيط بها التحقيق في جميع الجرائم والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خلال الفترة الممتدة من عام الاستقلال (1956) حتى نهاية ،1999 أي صعود الملك محمد السادس الى الحكم. كما اعطيت الهيئة صلاحية البت في الطلبات المعروضة عليها والمتعلقة بالتعويض عن الأضرار التي لحقت ضحايا الانتهاكات الجسيمة أو ذوي حقوقهم. أعدت الهيئة تقريراً ضخماً من خمسة مجلدات لما توصلت إليه من تحقيقات ووثائق وهو متاح للجميع، كما أعدت موجزاً لمضامين التقرير الختامي، وزع على نطاق واسع. ويتضمن تقرير الهيئة مقترحات وتوصيات من أجل ايجاد حلول لقضايا التأهيل النفسي والصحي والادماج الاجتماعي، واستكمال حل ما تبقى من المشكلات الادارية والوظيفية والقانونية لبعض الضحايا. كما اوصت الهيئة بجبر الضرر الجماعي لبعض المناطق ودعم مشروعات برامج للتنمية لهذه المناطق والمدن، وتحويل مراكز الاعتقال الى مراكز تنموية. كما تضمنت التوصيات اصدار تشريعات وتعديل عدد منها، وإجراء تغييرات في بنية الدولة بحيث تضمن استقلالية القضاء، وتوفير ضمانات بحيث لا تحدث تعديات على الحريات العامة والخاصة للجماعات والافراد سواء من قبل الدولة أو مجموعات خارج الدولة.
مغزى الخطاب الملكي
التقى الملك المغربي، ضيوفه غير الاعتياديين، وهم من ضحايا الاغتيال والتعذيب والسجن، والنفى، والعزل، وكذلك أهاليهم سواء الاحياء منهم أو واراهم الثرى، وكذلك أعضاء الهيئة وممثلي الكثير من منظمات المجتمع المدني. هؤلاء الضيوف الذي يمثلون المغرب كله من طنجة في الشمال حتى العيون في صحراء الجنوب، ومن مختلف الاجيال، ومن مختلف الاتجاهات. أعلن الملك تصديقه على تقرير هيئة الانصاف والمصالحة، وموافقته على توصيات الهيئة، واناط بالمجلس الأعلى لحقوق الإنسان، واكمال بعض مهمات الهيئة ومن ذلك البحث عن المفقودين، وتسوية ما تبقى من ملفات جبر الضرر كما طلب من رئيس الوزراء ومجلس الوزراء النظر في توصيات الهيئة فيما يخص اصدار التشريعات وإجراء التنظيم المطلوب في هياكل الدولة، لضمان عدم تكرار هذه الانتهاكات مستقبلاً. خاطب الملك ضيوفه بالقول «وهذا لا يعني اننا ننظر الى هذه المرحلة كماض طواه الزمن وانما نعتبرها من سجل امتنا العريق، ووسيلة ناجحة لمعرفة الماضي وفهم الحاضر والتطلع للمستقبل، بكل ثقه». واضاف «يتعين علينا استخلاص الدروس اللازمة منها، وذلك بما يوفر الضمانات الكفيلة بتحصين بلادنا من تكرار ما جرى واستدراك ما فات»، واعتبر الملك المغربي صدور التقرير وما قامت به الهيئة من إجراءات جبر الضرر بمثابة مصالحة صادقة، مستشهدا بالآية القرآنية «فاصفح الصفح الجميل»، وانه لصفح جماعي من شأنه ان يشكل دعامة للإصلاح المؤسسي، وإصلاح عميق يجعل بلادنا تتحرر من شوائب ماضي الحقوق السياسية والمدنية، وبذلك نعبد الطريق المستقبلي، امام الخمسينية الثانية للاستقلال. وربط العاهل المغربي ما بين تصفية ذيول مرحلة سابقة، أي الخمسين سنة من عهد الاستقلال، والمرحلة الجديد التي تتطلب انطلاقة جديدة لمواجهة تحديات التنمية البشرية في عالم جديد. أعلن الملك عن تشكيل هيئة من نخبة من المفكرين والخبراء برئاسة أحمد أخشيش لاعداد دراسة شاملة عن حصيلة الخمسين سنة الماضية، وافاق التنمية في الخمسين سنة المقبلة وقد طلب العاهل المغربي فتح نقاش وطني على مختلف المستويات، ومن قبل مؤسسات الدولة المركزية والجهوية ومؤسسات المجتمع المدني من احزاب ونقابات وجمعيات وغيرها، والخبراء والمفكرين، بشأن هذا المشروع الوطني. وأكد العاهل المغربي ضرورة التعبئة الشاملة لطاقات الشباب وفسح المجال امام كل المبادرات المنتجة للثروات الاقتصادية والابداع في جميع المجالات في مغرب تتكافأ فيه الفرص، كما شدد على تحقيق الكرامة والعيش اللائق لجميع المغاربة وتظافر جهود الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، وتفصيل آليات المراقبة والمحاسبة والشفافية في ظل سيادة القانون.
بيان رئيس الهيئة الختامي
رئيس هيئة الانصاف والمصالحة إدريس بن زكري، اصدر بيانا ختاميا بمناسبة صدور تقرير الهيئة عن عملها الممتد من 7 يناير/ كانون الثاني 2004 حتى 30 نوفمبر/ تشرين الثاني ،2005 وأشار بن زكري الى النتائج التي توصلت إليها الهيئة فيما يخص تحقيقاتها في ملفات ضحايا مرحلة طويلة امتدت خمسين عاما تقريبا، وتوصياتها التي من شأنها ان تحول دون تكرار هذه الانتهاكات، وفي الوقت الذي قامت فيه اللجنة بجبر الضرر لغالبية ضحايا التعذيب، أوصى بانهاء باقي طلبات جبر الضرر وادماج الضحايا في المجتمع. كما طالب باستمرار البحث عن مصير المفقودين. وقد شكر بن زكري جميع الأطراف التي تعاون معها وفي مقدمتها الضحايا واهاليهم وهيئات الدولة المختلفة ومؤسسات المجتمع المدني من احزاب ونقابات ومنظمات وخصوصاً منظمات حقوق الإنسان، وشخصيات حقوقية وقانونية عامة.
منتديات الحقيقة والإنصاف
ومن المعروف امنه قد تشكلت في المغرب منذ 1999 منتديات الحقيقة والانصاف والتي انتشرت على امتداد التراب المغربي، عملت على تكتيل وتحرك الضحايا واهاليهم وتعبئة قوى المجتمع، من أجل دفع الدولة الى الاعتراف بمسئوليتها فيما جرى من انتهاكات وتشكيل هيئة مستقلة للتحقيق في هذه الانتهاكات وهو ما كان. كما أنه وعلى امتداد ست سنوات، قامت هذه المنتديات بتحقيقات واسعة وجمع وثائق، وتنظيم احتجاجات ومسيرات الى السجون والمعتقلات ومراكز التحقيق السابقة، واحياء المناسبات وذكرى الضحايا. وقد عملت هيئة الانصاف والمصالحة على التعاون الوثيق مع منتديات الحقيقة والانصاف، ما أسهم فيما انجزته الهيئة. وقد كان رئيس المنتديات محمد صبار وقيادات المنتديات من بين الحضور في اللقاء في القصر الملكي.
تفاعلات الحدث
لقي الحدث المغربي، أي نشر تقرير هيئة الانصاف والمصالحة واستقبال العاهل المغربي للضحايا وأهاليهم والهيئة وممثلي المجتمع المدني، والخطاب الذي ألقاه، ترحيبا واسعا من الشعب المغربي بمختلف فئاته وانتماءاته، لكن هناك بعض التحفظات من قبل بعض المنظمات والشخصيات الحقوقية التي كانت تتوقع من العاهل المغربي إعتراف الدولة من دون مواربة عن مسئوليتها عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان على امتداد نصف قرن واعتذاره من الضحايا واهاليهم، على رغم أن تقرير الهيئة يقرر دون مواربة مسئولية الدولة. وتوقع الكثيرون ان يقوم رئيس الوزراء المغربي ادريس جطو بالاعتراف بمسئولية الدولة والاعتذار من الضحايا وعائلاتهم. وهناك من يطرح انه يتوجب على الدولة ان تمضي قدماً، وتقدم المسئولين عن هذه الانتهاكات الى المحاكمة، سواء كانت محاكمة معنوية أم محاكمة قانونية. والمعروف ان المغرب شهد جلسات استماع علنية جرى بثها على التلفزيون مباشرة، إذ قام الضحايا بسرد ما جرى لهم من معاناة وما تعرضوا له من انتهاكات. كما قام الشهود بعرض شهاداتهم بما يغرز سرد الضحايا، لكن هذه الجسات حجبت أسماء الجلادين ومناصبهم. ومن هنا فإن تجربة جنوب إفريقيا مضت ابعد من ذلك، إذ إن المحاكمات المعنوية جمعت الضحايا والجلادين والشهود، وأسهمت بالتالي في لأم الجروح على رغم انها لم تتضمن اصدار احكام بحق الجلادين. كما أن من تداعيات الحدث المغربي اختيار ادريس بن زكري كرجل العام في استفتاء اجرته احدى الصحف المغربية متقدماً في ذلك على العاهل المغربي. وقد جاء رد فعل عصبي من قبل مجلس الوزراء وعدد من الاحزاب والفعاليات تجاه نتيجة الاستفتاء. واذا كان مفهوماً أنه لا يتوجب اقحام الملك في مثل هذه الاستفتاءات، فإنه لا يتوجب التقليل من أهمية الدور الذي قام به السجين السياسي السابق ادريس بن زكري كرئيس لهيئة الإنصاف والمصالحة. ونجاحه في إدارة هذا الملف الشائك والمهمة المعقدة بنجاح.
التحدي المغربي
إن الحدث المغربي الاخير ليس معزولاً عن سياق سياسة المصالحة التدريجية وتطبيع الحياة السياسية بعد عقود من الاضطراب الذي تراوح ما بين عمليات عسكرية في جبال اطلس، وانتفاضات جماهيرية في المدن الكبرى، ومحاولات انقلاب عسكرية. لقد بدا التطبيع في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، بعد تفجر قضية النزاع على الصحراء المغربية. وأحد تجليات هذا التطبيع وتكليف حزب المعارضة الرئيسي الاتحاد الاشتراكي وزعيمه المحكوم بالاعدام عبدالرحمن اليوسفي بتشكيل الوزارة في ،1997 بعد الاستفتاء على الدستور المعدل وإجراء انتخابات عامة نزيهة نسبياً على أساسه، وبوصول الملك محمد السادس إلى الحكم خلفاً لوالده في مطلع ،1999 حدث تحول نوعي في الحياة السياسية المغربية. ويقف المغرب اليوم على رغم مشكلاته الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة في مقدمة الدول العربية من حيث مؤشرات الحريات العامة، ونزاهة الانتخابات، والتجربة الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، ومعالجة مشكلات الفقر والبطالة وانصاف المرأة وتمكين الشباب. وإذا عدنا إلى الحدث المغربي الاخير، فإنه يشكل تحدياً فعلياً للأنظمة العربية والمجتمعات العربية والنخب السياسية والثقافية. فما جرى في المغرب من انتهاكات لحقوق الإنسان ليست الأسوأ من بين البلدان العربية، وتجربتها ليست الأكثر سواداً. لكنه توفر للمغرب عاملان اساسيان لمعالجة ملف حقوق الإنسان، الأول وجود توافق سياسي مجتمعي من قبل القوى السياسية وقوى المجتمع المدني والضحايا وأهاليهم، على هذا الملف من دون مزايدات او تنازلات، ومن دون ا
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 1227 - السبت 14 يناير 2006م الموافق 14 ذي الحجة 1426هـ