وأهم، ذلك الذي يعتقد أن أياً من السيناريوهات السياسية التقليدية قادر على إيقاف عجلة الزحف الأميركي. هو زحف إمبراطوري في دورة الوصول إلى القمة، تدعمه ولأول مرة في التاريخ، عوامل ثقافية واقتصادية تتكامل في تمثل تاريخي فريد من نوعه. لهذه الدورة منحنى هبوط، لا أجد تباشيره حتى الآن ظاهرة. النظام العالمي الجديد لا يفترض «منطق السياسة»، بقدر ما هو مزيج من التعقل السياسي المرتبط بمفهوم السوق الاقتصادية وثقافة الاستهلاك والسلعة. ما تتطلبه السوق هو بالضرورة نتائج منطقية. وتدعم عجلة الاقتصاد حيوية المجتمع وأمنه، ولنا أن نصير جزئية «الأمن» كأولوية معتبرة، على ما يطلق عليه بعسكرة الاقتصاد. الأمن ضرورة للسوق، والسوق ضرورة السياسة، أما ما يتبقى، فهو زوائد الصورة، والصورة دائماً هي في منطقة اللامرئي من الألوان المستترة الخادعة. وللكلاسيكية السياسية أن تنتحر أو أن تفعل ما تشاء. لا مشكلة. أقلام عدة، راهنت على أن الأميركيين لن يدخلوا العراق، وأقلام أخرى راهنت على انسحاب سريع، وهي نفسها الأقلام التي روجت أن دمشق هي في منعة من الأميركيين، وهي ذاتها اليوم تكتب بخوف يكاد يخنقها أن المشهد السياسي السوري محدود التطوّر. الغريب أن هذه الأقلام لا تريد أن تعي ولو لمرة واحدة، حقيقة المرحلة ومعادلاتها، وهي على هذه الحال مسروقة الذهن، ضيقة المداد والتطلع والفهم في آن معاً. ثمة هوس جميل في الإعلام والتحليل السياسي، وهو أنك حين تكتب الحقيقة، وحين تعرف وتكتب أن الأميركيين قوة لا يمكن التصدي لها حالاً على الأقل، فإنك بذلك تتعرى سياسياً، وإنك... (تأتي سلسلة الشتائم المأثورة). هل هو صعب إلى هذا الحد أن تصف اللون الأحمر بالأحمر، وأن تعرّف الأسد بالأسد، نعم. بمعنى أوضح، ثمة شرط إعلامي سياسي تاريخي أن يكون الإعلامي أو السياسي مصاباً بعمى الألوان حتى يكون كاتباً بارعاً وسياسياً محنكاً، تقتضي «أدبيات السوق» الإعلامية أن تكتب الحماقات، فترضى عنك عقول كبلتها سنوات من ثقافة الإعلام الكاذب. وكما أن للسياسي حق «الكذب»، فإن للإعلامي حقه في ذلك أيضاً، إلاّ أن سلسلة الكذب الطويلة أصبحت إرثاً ثقيلاً نسبياً على كاهل بعض الإعلاميين، أو أنهم وصلوا إلى مقام رفيع بين الناس، فلم يعد من المقبول أن ترجع عقارب الساعة إلى الوراء. هل يقف إعلامي «قومجي» ليقول ذات يوم، «حسناً.. كنت أحمق، كل ما كتبته كان هراء،» حين طالب بعض الإعلاميين العرب من عميد الإعلام العربي محمد حسنين هيكل، تقديم اعتذار رسمي للأمة العربية على ما خدع به المصريين والناس فترة ناصريته المتشددة، اتجه البعض إلى أن هذه المطالبات هي مجرد «هراء»، لنا أن نعتبر أن المطالبة هي مجرد دعابة إعلامية، إلاّ أن المشكلة هي ألا يدرك هيكل فعلياً أنه كان فعلاً يقوم بخداع الناس بشكل متعمد، أما إن كان مقتنعاً بما قال وكتب، فإن مجرد المطالبة باعتذاره كان نوعاً من الحماقة.
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1226 - الجمعة 13 يناير 2006م الموافق 13 ذي الحجة 1426هـ