لم اتوقع لمريم السعد هذا الرحيل المفاجئ السريع. .. لم أكن أعلم انها في المراحل المتأخرة من داء السرطان... لأنها لم تشتك أبدا... فهي لا تطلب مساعدة لنفسها أبداً... ولا تزعج احداً بمشكلاتها... لا أسمع صوتها إلا إذا كانت تبحث عن مساعدة مادية لإنسان محتاج. قليل عليها أن اسميها أم الفقراء فقد كانت فعلاً أمهم روحياً. بكيت كثيراً عندما علمت برحيلها المفاجئ... لأنني كلمتها منذ عدة أشهر وسألتها عن صحتها وأخبرتني انها بخير... وشكرت الله وحمدته كعادتها دائماً. قطعت مريم سنوات طويلة من حياتها القصيرة تلبية لاحتياجات الفقراء (همها الأكبر)... تبحث عند كل من تعتقد انه قادر على مساعدة مادية أو عينية... وكثيرا ما كانت تطلب ممن يقيمون الحفلات ان يخبروها حتى تكون على استعداد لجمع الطعام الباقي النظيف... لتنقله بباص صغير اشترته لتستطيع به ان توزعه على المحتاجين في الليلة نفسها، فتنتقل من بيت الى آخر لتطعم به أناساً في حاجة الى هذا الطعام حتى لا يناموا في جوع. من لديه الصبر في أيامنا هذه (بخلاف امرأة أخرى معروفة بفعل الخير مثلها هي بدرية الشاعر اطال الله في عمرها) ان يلف من حفلة الى حفلة ليجمع الطعام للبائسين والمحتاجين... كانت المرحومة مريم السعد لا تعود إلى البيت في تلك الليالي الا في ساعات متأخرة لتداوم بعملها في «وزارة العمل والشئون الاجتماعية»... الى ان تقاعدت في السنوات الأخيرة. كانت هذه المرأة عظيمة بدينها النقي البسيط وعطائها اللامحدود لفعل الخير... شاءت الإرادة الإلهية ان ترحل سريعاً... والناس مازالوا بحاجة إليها... لكنها أعطت الكثير من نفسها لإسعاد الناس البسطاء وطلباً لإرضاء الله... وذهبت وهي محاطة بجواهر الآخرة التي سيكون لها بسببها قصر في الجنة... مع معاناتها وهي صابرة وتعمل مع دائها اللعين الذي قضى عليها أخيراً. أذكر لهذه السيدة المعطاءة وقفتها النبيلة مع اسرة فاطمة التي اختطفت... كان ابناء هذين الوالدين اللامسئولين... وحدهم لا مقر لهم... وأوجدت من خلال اهل الخير المسكن لهم... ثم أخذت تبحث عند كل شخص مقتدر أو محل مفروشات عن اثاث لتفرش لهم ذلك المسكن... ولم تكتف بذلك، وإنما كانت لأسابيع تطبخ لهم طعامهم، الذي تشتريه من مساعدات الناس الخيرين. كانت تعمل الخير بلا حدود... ونادرون في ايامنا هذه من يفعل مثلها على رغم زيادة التدين الذي ينصب معظمه على المظهر لا أفعال الخير... ومازلت اذكر صوتها وهي تخبرني عنهم الى ان منحت الأخت الكبرى منيرة زوجاً فاضلاً يعمل شرطياً كان خير اخ لهم جميعاً آواهم لديه وأصبحت اختهم الكبرى أماً ثانية لهم... لكن فاطمة الابنة المسكينة رحلت ولم تعد.. وها هي مريم السعد ترحل بلا عودة بعد أن كانت خير نموذج للمرأة البحرينية المسلمة في زمن شوه فيه المسلمون المتطرفون الدين الإسلامي الذي لا تخلو كل سورة في قرآنه الكريم عن الجنات التي تنتظر الذين آمنوا وعملوا الصالحات... وعكس هؤلاء المسلمون الضالون هذه الافعال الخيرة بقتل الابرياء باسم هذا الدين العظيم الذي يدعو إلى الإسلام بالحكمة والموهظة الحسنة... لا التدخل في حياة الناس الشخصية باسمه وهو بريء من ذلك. تمنيت ان يتزايد المسلمون الخيرون ممن هم على شاكلة المرحومة مريم السعد من أجل أن تمتلئ قلوب الناس بالراحة والسكينة والسعادة النفسية. ما خفف عليّ حزني على هذه الغالية المعطاءة انها كانت خير نموذج لابنتها الطيبة التي لم يوقفها مرض امها الخطير وحزنها أن تسأل الناس عن الأضاحي لتوزعها على الفقراء في عيد الاضحى... كما كانت تفعل أمها... حتى انني لم اصدّق ان الابنة تسأل عن الأضاحي وترحل والدتها في اليوم التالي. لقد انجبت هذه المرأة والأم العظيمة ابنة تحمل رسالة الخير والعطاء التي بدأتها... ولا أشك أبداً في أنها ستواصل حمل مشعل الخير مادامت على قيد الحياة. إن الدولة يجب أن تكرّم هؤلاء الناس البسطاء الذين يعملون في صمت... مانحين معظم وقتهم وجهدهم للمحتاجين والبؤساء... ويرحلون في صمت نبيل... لأنهم لا يقلّون عمن ساهموا في تقدم الاقتصاد أو الفن والادب والعلوم... بل كم من الابناء عن طريقهم تعلموا... وتخصصوا في الجامعات بمساعدة القادرين مادياً وبدأوا في بناء حياتهم بإيجابية وتفاؤل... وسيكون هذا التكريم له دور فعال في تقدم مملكة البحرين حضارياً. * كاتبة بحريني
إقرأ أيضا لـ "سلوى المؤيد"العدد 1226 - الجمعة 13 يناير 2006م الموافق 13 ذي الحجة 1426هـ