حين تزور المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل البيت الأبيض هذا الأسبوع لأول مرة بعد انتخابها في منصبها الشهر الماضي، لن يتناولا في اجتماعهما فقط موضوع الإرهاب المحبب عند الرئيس الأميركي جورج بوش. فقد ذكرت ميركل مراراً أنها ترى الولايات المتحدة شريكاً رئيسياً لبلادها، على عكس سلفها غيرهارد شرودر الذي دخل في نزاع شخصي مع بوش بسبب غزو العراق. تتبع ميركل بذلك تقليداً قديماً للحزب المسيحي الديمقراطي الذي تتزعمه. فعلى مدى السنوات الـ 55 الماضية، ظل الحزب يرى خلالها الولايات المتحدة أهم شريك لألمانيا، إذ ساهمت في وضع نهاية لحكم هتلر ومهدت لظهور ألمانيا الاتحادية التي أصبحت قوة اقتصادية مهمة في أوروبا والعالم بعد عشرين سنة على هزيمة ألمانيا النازية. نشأت علاقة وثيقة بين الولايات المتحدة وألمانيا خصوصاً وأوروبا عموماً، نتيجة الحرب العالمية الثانية. ومن وجهة النظر الأميركية فإن العدو الحقيقي في ذلك الوقت كان النازيون الذين اضطهدوا اليهود. وعلى رغم أن كثيرين من الألمان شاركوا في أعمال الاضطهاد التي ساعدت في الهجرة اليهودية إلى فلسطين، فإن الشعب الألماني لم يسر بكامله في ركاب النازيين. وبسبب المنافسة على النفوذ في العالم بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، شعرت الولايات المتحدة بأهمية وقوف حلفائها في أوروبا الغربية إلى جانبها في مواجهة المعسكر الاشتراكي الموالي لموسكو، وما كان يسمى الخطر الشيوعي. وتضامنت الأحزاب المسيحية الديمقراطية الأوروبية الغربية مع بعضها بعضاً بعد أن غذتها الولايات المتحدة بالدعاية القائمة على قاعدة وقف المد الشيوعي تجاه أوروبا والعالم، وبدأ التفكير بإنشاء أوروبا موحدة لتكون جداراً بوجه الشيوعية.
في نيويورك عُرفت قوة الصهاينة
وتعين على ألمانيا الغربية وقتها بسبب موقعها الجغرافي وثقلها الاقتصادي أن تلعب دوراً رئيسياً في حقبة الحرب الباردة بين الشرق والغرب. وكان لانتخاب أول حكومة ألمانية في فترة ما بعد الحرب يقودها مستشار ينتمي للحزب المسيحي الديمقراطي دور في التبعية للولايات المتحدة. وسرعان ما أدرك المستشار كونراد أدناور أنه يتعين على بلاده إقامة علاقات دبلوماسية مع «إسرائيل» وتقديم تعويضات كبيرة لها وللشعب اليهودي قبل المطالبة بعودة ألمانيا إلى الحظيرة الدولية، فقد كان هذا مطلباً أميركياً. وتحقق هذا الهدف في غضون سنوات قليلة لأن «إسرائيل» كانت بحاجة ماسة إلى المال والسلاح لتدعيم كيانها، وكما قال رئيس وزرائها آنذاك ديفيد بن جوريون: «نمد يدنا إلى الشيطان لسد حاجتنا». حين عاد أدناور من زيارة لنيويورك بعد جولة مفاوضات مع بن جوريون قال لمقربين منه: «لم أعرف أن اليهود أصبحوا قوة عظمى»، إذ شعر المستشار الألماني في نيويورك بالنفوذ الواسع للوبي اليهودي الذي لم تتراخ قوته حتى اليوم، فهناك ستة ملايين يهودي يراقبون كل كلمة تصدر عن سياسي ألماني تجاه «إسرائيل» والهولوكوست. وعلى رغم أن ألمانيا باتت مع الوقت ثاني أهم ممول لـ «إسرائيل» بعد الولايات المتحدة فإن يهود الولايات المتحدة، وخصوصاً الذين نجوا من الهولوكوست، من الصعب عليهم أن يغيروا نظرتهم لألمانيا ويعترفوا أن أدناور ومن بعده المستشار الاشتراكي فيلي برانت وضعا أسس دولة ديمقراطية. وأدى الكشف في وسائل الإعلام الألمانية عن جرائم النازية إلى ردود فعل ساعدت في ترسيخ الديمقراطية الألمانية. وعلى رغم فوز الحزب القومي الألماني بالانتخابات البرلمانية في مطلع الستينات، فإن هذا لم يساعد في عودة النازية ولم يحيِ مشاعر مؤيدة للنازيين. وتوطدت العلاقات المتميزة بين الولايات المتحدة وألمانيا إبان الحرب الباردة وظلت تزداد عمقاً وتتطور بغض النظر عمن يمسك زمام الحكم في واشنطن أو بون. وأصبحت ألمانيا قاعدة متقدمة وسط أوروبا للأميركيين، إذ أقاموا فيها قواعد عسكرية استغلوها لاحقاً في بناء جسر جوي لغزو العراق العام ،1990 ومرة ثانية في العام .2003 ونما دور أوروبا بعد تأسيس المجموعة الأوروبية المشتركة سياسياً وعسكرياً بعد تأسيس حلف الأطلسي. فكما كتب على ألمانيا الشرقية الانضواء تحت مظلة حلف وارسو، كتب على ألمانيا الغربية الانضواء تحت مظلة حلف الناتو. وكان نفوذ ألمانيا الغربية العسكري محدوداً، بسبب الماضي، وتكفلت الولايات المتحدة بدور القوة الحامية لتبرر الوجود العسكري الكبير لها في هذا البلد. في نهاية الستينات ومع قيام ثورة الطلبة ضد النظام الرأسمالي في ألمانيا الغربية، ومع نشوب حرب فيتنام، نزل الشباب الألماني اليساري إلى الشوارع، معبّراً عن معارضته للحرب. ولأول مرة رفعت لافتات كتب عليها: «أيها الجنود عودوا إلى بلدكم». وكان بين هؤلاء المتظاهرين وزير الخارجية الألماني السابق يوشكا فيشر، كما تعاطف معهم غيرهارد شرودر الذي أصبح لاحقاً مستشاراً.
عبدالناصر وألمانيا الشرقية
موقف ألمانيا الغربية المؤيد لـ «إسرائيل» وتبعيتها للولايات المتحدة، جعلها تدخل في خلاف مع العالم العربي. رداً على تزويدها «إسرائيل» بالسلاح وعقد علاقات دبلوماسية معها، قام الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر بدعوة رئيس ألمانيا الشرقية، ألبريشت وعقيلته لزيارة مصر، وأثار بذلك غضب الألمان الغربيين الذين كانوا ينفقون ملايين الماركات منعاً للجوء دول في العالم الثالث إلى عقد علاقات دبلوماسية مع ألمانيا الشرقية. ومنذ تأسيسها حتى اليوم فإن علاقتها المتميزة مع «إسرائيل» والهولوكوست من الموضوعات التي تشغل الدبلوماسية الألمانية على الدوام. وليس مجرد صادفة أن تضع المستشارة ميركل «إسرائيل» على جدول زياراتها للخارج بعد الولايات المتحدة. كما ترى القنصليات الألمانية في المدن الأميركية الكبيرة وفي اللقاءات التي يعقدها سياسيون ودبلوماسيون ألمان مع ممثلي اليهود الأميركيين والتي هدفها أكثر من رعاية العلاقات الاقتصادية معهم، انه من واجب الدبلوماسيين الألمان في الخارج أن يشيروا إلى ما تقدمه ألمانيا من مساعدات عسكرية ومالية لـ «إسرائيل» والتأكيد على اهتمام ألمانيا بأمن ومصير الدولة اليهودية، وان ألمانيا بعد إعادة توحيد شطريها في العام 1990 أهم صديق أوروبي لـ «إسرائيل»، وأن هذا الموقف أكثر من مجرد موقف سياسي إذ بات من ثوابت السياسة الخارجية الألمانية. انقلبت العلاقات الألمانية رأسا على عقب بعد مجيء جورج بوش إلى البيت الأبيض. وقد استقبل باستهجان حين زار برلين وقام عشرة آلاف رجل أمن من الولايات المتحدة وألمانيا بحراسته. في الماضي كان الألمان ينزلون إلى الشارع لاستقبال الرئيس الأميركي. حين وقع هجوم الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 نزل الألمان إلى الشوارع معبرين عن تضامنهم مع الولايات المتحدة، وأعلن المستشار شرودر وقوف ألمانيا اللامحدود مع الولايات المتحدة. سرعان ما أصبح للموقف الألماني حدود بعد خروج بوش جونيور عن مبادئ الحرب المناهضة للإرهاب، إذ أدت العمليات العسكرية التي شنتها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق إلى سقوط عشرات الآلاف من الضحايا الأبرياء. وحين أعلن بوش عزمه غزو العراق قال الألمان: كفى. واتهمه المستشار شرودر بالدخول في مغامرة وأعلن كأول مستشار ألماني أن السياسة الألمانية تصنع في برلين وليس في مكان آخر. بلغت العلاقات الألمانية الأميركية أسوأ حقبة. يقول محللون في برلين إن حكومة محافظة في برلين كانت تبنت الموقف نفسه الذي تبنته حكومة شرودر لأن ألمانيا تعرف أكثر من الولايات المتحدة نتائج الحرب، فالولايات المتحدة لم تتعلم من درس فيتنام حتى اليوم. أنجيلا ميركل ساندت حرب العراق على رغم أنها لم تشر إلى ذلك بوضوح. انتقدت موقف شرودر وقالت حين زارت واشنطن إن شرودر لا يتحدث باسم جميع الألمان. تعرضت ميركل إلى لوم في بلدها. في الحملة الانتخابية قالت إنها لن ترسل جنوداً ألمانيين إلى العراق وإنها متمسكة بسياسة سلفها حيال هذا البلد، فيما أكدت مواصلة حكومتها الجديدة دعم العراق بواسطة تدريب عناصر الأمن والجيش في قاعدة بدولة الإمارات العربية المتحدة. لا أحد يعرف ميركل جيداً، أنها صاحبة مفاجآت. هكذا فاجأت الرأي العام حين طالبت قبل سفرها إلى واشنطن بإغلاق معتقل غوانتنامو وبتغيير معاملة المعتقلين الذين تحتجزهم الولايات المتحدة في هذا المكان المرعب من دون محاكمة. وحين زارت وزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس برلين طلبت ميركل توضيحات من واشنطن بشأن قضية خطف مواطن ألماني من أصل لبناني إلى أفغانستان من قبل عملاء الـ «سي آي إيه» في أوروبا. بينما تحفظت رايس على الموضوع، قالت ميركل للصحافيين إن الولايات المتحدة اعترفت بخطئها. سيصعب على ميركل في ظل وجود جورج دبليو بوش الميول كثيراً للولايات المتحدة وإعادة العلاقات بين برلين وواشنطن إلى سابق عهدها، أولاً لأن تبعية واشنطن في ظل بوش جونيور الذي تبقى له ثلاث سنوات في البيت الأبيض، لن تلقى قبولاً عند غالبية الألمان، كما أن شرودر أصر على أن يعهد إلى فرانك فالتر شتاينماير بمنصب وزير الخارجية. وكان هذا مهندساً للسياسة الخارجية التي عمل بها شرودر والتي كانت ترى المحور الألماني الفرنسي الروسي أهم من المحور الألماني الأميركي
العدد 1225 - الخميس 12 يناير 2006م الموافق 12 ذي الحجة 1426هـ