على أن للوجع دورة حياة متكاملة، لدمشق أن تعيش دورتها من الوجع. ولما لم يكن الوجع قد وصل ذروته اليوم، فما هو قادم لأسوار الأمويين هو أكثر مما جالت به أيدي العباسيين فيها. على أن خراب العباسيين الجدد من نوع جديد، وهو خراب لا يقتضي التصفية السياسية بمفهومها الكلاسيكي.
آخر أوجاع دمشق خدّامها، و(خدام/ الجلبي) بما هو الصورة السياسية التقليدية للبديل المرتقب، أو بمعنى الأضحوكة التي وقع خدام في شراكها كما وقع أحمد الجلبي فيها باحترافية، هو ليس المتوسط الحسابي لعملية التعارك الأميركي السوري، فالحوادث المقبلة ستكون أسخن.
لم يكن اختيار مشهد انقلاب نائب الرئيس السوري ضرورياً حتى يحس السوريون بتفاقم عزلتهم الدولية، وليست أي سيناريوهات جديدة ستفرزها الساحة السياسية في الشرق الأوسط سوى تسلسل منطقي وانسيابي من دورة «النحس» التي ستمر بها دمشق.
على أن مجمل المشهد السياسي السوري اللبناني لايزال مفتوحاً، ومازالت دمشق قادرة على أن تقلب كل التوقعات. الأميركيون جادون أكثر من أي وقت مضى في رغبتهم في تغيير السلطة السياسية في دمشق، وهذه الرغبة ليست طويلة الأمد على ما يبدو، بل هي تسير في تسارع زمني لا يعطي السوريين الفرصة لمراجعة أوراقهم بحذر وعمق.
الرئيس بشار الأسد لايزال يمتلك الحل السياسي الأوفر حظاً والأقوى دولياً في ردع الأميركيين عما هم عازمون عليه. وحدها الإصلاحات السياسية الجذرية هي من تستطيع أن تبقي الأسد من خلالها «أسداً». والمعادلة السياسية في أي مكان في العالم تؤكد هذا الخيار. فالديمقراطية والحرية هي السبيل الوحيد لبقاء أي حكومة ما على رغم الأميركيين، ولنا في «تشافيز» فنزويلا عبرة حسنة.
على دمشق وقيادتها السياسية أن تتفهم اليوم وليس غداً، أنها لن تستطيع مقاومة المد الأميركي تجاهها، على أن المد الأميركي هو ليس بالضرورة حرباً برية تقليدية، فمئات الوسائل الأخرى متاحة، وتستطيع الولايات المتحدة من خلالها أن تحقق ما تريد.
تفكيك وهم «حزب البعث» العظيم، «انقلاب أبيض على رؤساء الأجهزة الأمنية الذين يكبلون إرادة الأسد الشاب»، «السماح بحياة سياسية ديمقراطية وبأحزاب معارضة معتبرة»، «إنتخابات حرة».
هذه الإجراءات الثقيلة «الضرورية» هي السبيل الوحيد أمام سورية حتى تبقى قادرة على البقاء. ديمومة دمشق ليست مستحيلة بقدر ما هي مكلفة وباهظة الثمن. ليست كريمة بقدر ما هي تحتوي شيئاً من الإهانة.
لدمشق كل الحق أن تحس بالإهانة أو الخضوع، على أن الإحساس بالإهانة، أو ما يسميه السوريون المتحمسون بالـركوع، هو أهون من أن ينتهي كل شيء جراء التمسك بهوس البعث المفكك، أو عظمة التاريخ السياسي السوري الذي لا يذكره أحد بخير!
التاريخ لا ينساه أحد، «أربعون ألف مفقود سوري»،«ضحايا مجزرة حلب»، «التصفيات السياسية لآلاف المعارضين»، هكذا كان الماضي العتيد، وإذا كان الماضي السوري «داخلياً» بامتياز، فإن حاضره كان مقتله الخارجي، وهو ما أثقل المعادلة حد التخمة/ الانفجار، «اغتيال الرئيس الحريري»، «العبث بأمن لبنان وحريته»، «دعم مجموعات الإرهاب في العراق».
على دمشق أن تنتهي من مئات الملفات السياسية المعقدة دفعة واحدة. فالوقت ضيق حد أن يكون الوقت أيضاً نوعاً مميزاً من الوجع. لم تشهد الصورة السياسية الدولية تسارعاً في الحوادث السياسية كما هي وتيرة التسارع في معاناة دمشق هذه الأيام. والظاهر لنا أن على دمشق أن تستعد للديمقراطية والإصلاح السياسي «الحقيقي» بعيداً عن اجتماعات الأحزاب التاريخية، ذات النتائج المستهلكة. تلك حقيقة الأمر، وعلى الجار أن ينظر إلى ذلك الإعصار كيف «حطّم» جدران منزل جاره العتيد، وقد كان جاره بالأمس أكثر قوة ومنعة. وهو اليوم في قفص يستعطف تارة ورقة، وشيئاً من الاحترام تارة أخرى
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1223 - الثلثاء 10 يناير 2006م الموافق 10 ذي الحجة 1426هـ