العدد 1222 - الإثنين 09 يناير 2006م الموافق 09 ذي الحجة 1426هـ

دمشق من السعي إلى السلام إلى طلب السلامة

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

لا يوجد عربي عاقل يتمنى لدمشق هذا المأزق السياسي، فمأزق سورية اليوم ليس تحرير مرتفعات الجولان المحتلة الذي طال انتظاره، كما كانت الأمور حتى عام مضى، إذ كانت الإستراتيجية الأوسع استخدام ظروف لبنان الدولية واللوجستية للضغط من أجل «وحدة المسارين» كما شاع. مأزق سورية اليوم هو لبنان، وهو مأزق كلما حاولت دمشق الإفلات منه زادت تورطاً فيه.

مأزق دمشق الحالي حذر منه كثيرون، وعلى الملأ، ولكن التحذير المكتوب والمنشور لم يجد صدى، استعيض عنه بالتقارير السرية والصور المشوهة. قبل عام كانت دمشق في بيروت منتشية، واليوم تريد دمشق أن تتخلص من شبح بيروت دون جدوى، وكلما حاولت غاصت أكثر.تصريحات نائب الرئيس السابق عبدالحليم خدام، خدمت البعض، كونها جاءت في توقيت مناسب ومن شخصية مهمة، ولقضية ساخنة، يهتم بها جمهور عربي واسع، وهي قضية الاغتيالات السياسية التي يسميها البعض عن حق بقضية الحريات. الجمهور العربي يعرف أن تصريحات النائب السابق تقع تحت سقف من «يأكلون الغلة ويشتمون الملة»، فنائب الرئيس السابق ليس امرأة قيصر، بل إن الكثيرين في صفه ومن شيعته السابقين ليسوا امرأة قيصر كذلك، سواء خرجوا من دمشق اليوم وهم الأقلية، أو مازالوا فيها وهم الأكثرية. إنما هو التوظيف السياسي صاحب الكأس المعلى في هذه الفترة. فلم يعد المراقب العربي ساذجاً أو مُؤدلجاً إلى درجة يعمى معها عن فهم الأمور، كلها وليس بعضها.

نائب الرئيس يتحدث عن عصر «منطفئ الحريات»، وكان رجاء كثيرين مما يعشقون الشام وأهله، أن تخرج الشام من ذاك العصر إلى عصر النور والحرية، بعد أن تبدلت الأزمان، إلاّ أنهم فوجئوا بأنه عصر يرتكب الأخطاء بعد الأخطاء.

تصريحات نائب الرئيس السابق من جهة أخرى، تطرح السؤال: لماذا تسقط أنظمة الحزب الواحد تحت تجمد الأفكار، وتكشف في النهاية عن تكوينات عشائرية وعرقية وفئوية؟ انه العطب السياسي الذي يحول بين العرب وبين تدبير شئونهم العامة بحصافة وكفاءة يتطلبهما العصر.

انه عمى مركب. فليس بغريب لمن يغشى منتديات بيروت منذ سنوات أن يشعر بتململ في مختلف الصفوف من ضغوط الأخ الأكبر. الظاهرة يعرفها الجميع بمن فيهم آذان دمشق في لبنان، إلاّ أن الآذان كانت صماء لا تريد أن تسمع غير ما ترغب في سماعه. لقد كان هناك من البعض اللبناني من يظهر مشاعر «وحدوية» فياضة وسلوكاً مخالفاً يتأفف من «الأخ الأكبر»، ويطلق في الوقت نفسه قوارص اللسان. هذا التناقض لم تحله النخبة اللبنانية بعد، ولم تستطع أن تؤسس للخلاف وتعبر الجسر للتحاور. فتصريحات بعض اللبنانيين حتى حينه، محيرة على أقل توصيف.

ففي الوقت الذي تدين فيه «نظاماً أمنياً سورياً لبنانياً» تتحدث عن أخوة «عربية»، وحتى الآن لم يطرح الفارق الأساس بين «دكتاتورية» فئة ضيقة تجاوزها الزمن، ومطالب ديمقراطية واسعة يرغب فيها جمهور مستعرض من العرب الجدد وفي أي بلد، ومنها لبنان وسورية.

حقيقة الأمر، لم تفعل السلطة السورية في لبنان أكثر مما فعلت تجاه جمهور عريض من شعبها. لقد حاولت أن تصدر النموذج، وهو نموذج المراقبة والمعاقبة، إلاّ أنها غلفت سلوكها السياسي برغائبية وتصور مثالي للتحرير والضغط من الخاصرة اللبنانية، لعل شيئاً يتحرك على جبهة الجولان. وأصبح في لبنان شريحة مؤيدة لهذه الرغائبية تحدوها ظروف وعوامل خاصة، وشريحة أخرى أوسع تقدم الدعم اللساني «لضرورة المقاومة». هذه الثنائية التي لم تحل بعد لبنانياً، ربما أرسلت رسالة إلى دمشق «الغضة» بإكمال الاستراتيجية، وهي حرب الآخرين على أرض الآخرين.

لم يتبين لأحد ضعف وهشاشة هذه الإستراتيجية، حتى بعد اغتيال الشهيد رفيق الحريري، فأصبحت الأطراف المعنية تتخبط في ردود فعل لصورة عامة وهمية رسمتها هي وصدقتها.

وبدا الملف المفتوح يُخرج غثاؤه، فتمت سلسلة من الاغتيالات أو محاولة الاغتيالات علها توقف الانحدار، ومع كل اغتيال وما يليه تتدحرج القضية إلى الأسفل، حتى خروج تصريحات نائب الرئيس السابق.

من تابع جلسة مجلس الشعب السوري في «تقريع» الأخ النائب يرى الانحدار بوضوح، وهو ليس بعيداً عن «المدرسة» نفسها التي كان السيد النائب نفسه، إبان تألقه، تألفه ويألفها، ويكيلها للآخرين في الاجتماعات العربية، وكان البعض يسميها «بذاءة لسان»، إلاّ أنها زادت في الجلسة التي أذيع بعضها على تلفزيونات عربية من مجلس الشعب السوري، إذ أريد فيها إدانة النائب بإدانة النظام السابق واللاحق!

يتساءل البعض: إن كنتم تعرفون عن كل هذا الفساد السابق وانتم صامتون، ترى ما هو مستوى الفساد الذي تعرفونه اليوم وهو شائع وربما تتسترون عليه؟ تلك تساؤلات لاشك مرت بخاطر المتابع العربي الفطن، وهو يشاهد المشهد المجلسي الذي دبّ فيه الحماس، والذي أدان التجربة بكاملها في الوقت الذي كان يريد أن يدين فرداً واحداً من حزمتها السابقة، ويبرئ الجمع الباقي.

السؤال ليس عن الماضي، بل عن المستقبل، فكيف تخرج سورية من المأزق؟ المعادلة بسيطة وممتنعة عن الحل، فدمشق يبدو أنها ترى في رأب الصدع هو «طمس الحقيقة»، وبيروت ترى رأب الصدع في معرفة «الحقيقة»، تناقض الطمس مع المعرفة يشكل واقع أزمة الاستعصاء.

عربياً، لا مراهنة على موقف عربي، مع الاحترام لشخوصه، فالتدخل النشط تقف أمامه عقبة هي العلاقة بين الطمس والمعرفة، وهو السؤال العالمي نفسه الذي تسأله العواصم الأخرى. وكل الوصفات الممكنة لا يبدو أن دمشق في جوّ القبول بها، لا معرفة من دبّر ونفّذ، وهو الملف الأسهل، ولا في الملف الأهم، وهو إشاعة جو إصلاحي حقيقي لا يبخس أهل الشام أشياءهم. هذه المعادلة تكمن تحت كل الشعارات اللفظية، من تحرير أو مقاتلة، وتظهر أن البحث الحقيقي هو إيجاد دهاليز لإنقاذ الرقبة.

يخطئ من يظن في دمشق أن هناك أوراقاً يمكن أن تستخدم، وخصوصاً في لبنان. لقد تبين في مدى الشهور الاثني عشر الماضية أن كل ورقة تستخدم تأتي بمردود عكسي تماماً، وما أصبح أمام دمشق في مأزقها اللبناني إلاّ أن تعترف بخسارتها وتتوقف عن الخسارة الأكبر.

معركة الإعلام السوري لن تربحها دمشق، ليس لقلة الذكاء لدى السوريين، ولكن لأن الإعلام الجيد يحتاج إلى ثلاثة عوامل: صدقية عالية، ومنهجية مجبولة على الحريات، ورجال مهنيون وليسوا موظفين! وهي حتى اليوم تفتقد الثلاثة في الغالب.

المأزق السوري ليس بهيّن، وقواعد الاشتباك التي قُررت حتى اليوم في دمشق، تحتاج إلى إعادة نظر جذرية وشجاعة، فسياسة تأديب لبنان تفضح أدب الدولة الشامية، و«بالروح بالدم» لم يحقق للآخرين نصراً حتى يحققه اليوم لدمشق

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 1222 - الإثنين 09 يناير 2006م الموافق 09 ذي الحجة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً