الآن فقط أفقت من شدة الصدمة جراء نبأ ذبح سودانيا من طالبي اللجوء الأسبوع الماضي، وسط قاهرة المعز لدين الله الفاطمي في حديقة مصطفى محمود قبالة مكتب الأمم المتحدة، إذ كانوا يعتصمون لأكثر من أشهر، عشما وحلما في الحصول على واقع أفضل لقضيتهم العادلة وفقا لرؤيتهم، على رغم أنني لا أتفق معهم في الجري وراء السراب.
يحتاج المرء حقيقة إلى مزيد وقت؛ ليمحو من ذاكرته صور الضحايا وصراخ الأطفال وأنين النساء وضجيج الجوعى من الشباب في صحراء الجدب الإنساني، شاءت ظروفهم أن يكونوا ممن يحملون بشرة سوداء وقلوباً بيضاء مزقها التعب والألم والسؤال الغامض عن هذا العالم الذي لا يرحم.
لقد تعاملت قوات الأمن المصرية بمنتهى القسوة مع «الغلابة» الذين جاءوا إلى مصر كما النيل بقلوب يملؤها الحب والأمل في أن تكون ملاذهم الآمن وأن تقف معهم في ظروفهم القاهرة، وأن تمد لهم يد العون والمساعدة، لأنهم حسبوها بحق أخت السودان الكبرى فكم تغنوا باسمها:
مصر يا أخت بلادي يا شقيقة يا رياضاً... عذبة النبع وريقة يا حقيقه
لكن للأسف خيب الأمن المصري بجريمته العنصرية تلك الآمال، بل وبنى صرحا من العداء والكراهية. فقد غمرت الشرطة الأطفال والنساء والجوعى بالمياه الباردة في البرد القارس عند الصباح الباكر، ومن ثم انهالت عليهم بالهراوات والرصاص فهلك من هلك وفقد وعيه من فقد. وكان العذر أقبح من الذنب أن الضحايا قضوا بفعل التدافع، وأنهم سكارى ومرضى إيدز. ورأى العالم بأسره مباشرة عكس ذلك. إن هؤلاء الضحايا شارك غالبية آبائهم وأجدادهم في حرب تحرير سيناء وقبلها العدوان الثلاثي على مصر، وهم الذين غبروا أرجلهم في مسيرات هادرة استقبالا لجمال عبدالناصر عقب النكبة لترفع الخرطوم لاءاتها الثلاث في وقت قل فيه النصير آنذاك.
تخيلوا معي لو قلبنا الصورة وافترضنا أن المعتصمين كانوا مصريين بوسط الخرطوم، ماذا سيكون رد فعل مصر، والدول العربية بل والعالم أجمع؟
لقد خشيت في الأيام الماضية أن يكون هناك رد فعل سوداني تجاه الإخوة المصريين من الأقباط وغيرهم في السودان بعد أن تواطأت الحكومتان السودانية والمصرية في تبرير الجريمة، لكن الحمد لله لم يشأ الشعب السوداني أن ينزل إلى هذا النوع من الانحطاط والانتقام من الأبرياء وهو يعلم أن هناك أحراراً وشرفاء مصريين (مؤسسات المجتمع المدني وحقوق الإنسان، حركة كفاية، الإخوان المسلمون، كتاب وغيرهم) شجبوا هذه المجزرة المريعة، فالتحية لهم ودامت العلاقات بين الشعوب ولتخسأ أجهزة القمع الوحشية
إقرأ أيضا لـ "عزوز مقدم"العدد 1219 - الجمعة 06 يناير 2006م الموافق 06 ذي الحجة 1426هـ