انتقد المرجع الديني السيدمحمد حسين فضل الله، سيادة لغة الشتيمة ومفردات اللعن والسباب في خطابنا السياسي وفي كثير من النماذج العربية والإسلامية، مشيراً إلى أن المسألة ليست قصوراً في الناحية الأدبية والسلوكية فحسب بل في وجود قرار بعدم الدخول إلى العصر من زاوية الثقافة النقدية الحضارية.
وأكد أنه يراد للبنان أن يبقى في دائرة الاهتزاز لأن أميركا أرادت للمنطقة أن تدخل في مرحلة الانتظار التي لا تُحسم فيها الأمور، مبدياً خشيته من أن لبنان سيستمر في لعب دور الساحة المفتوحة على تناقضات المنطقة والتجاذبات السياسية الأمنية فيها.
جاء ذلك رداً على سؤال في ندوته الأسبوعية بشأن الموقف الإسلامي من ثقافة النقد، وفيما يأتي الجواب:
حرص الإسلام على بناء الشخصية الإسلامية بناءً متكاملاً، إذ جعل في سلّم أولوياته فتح باب المعرفة أمام الناس، وحثهم على المشاركة في كل ما من شأنه أن يرفع مستواهم أو أن يجعلهم يساهمون في بناء مجتمعاتهم من خلال ممارستهم الطبيعية لعملية النقد التي تنشأ من خلال هذا التفاعل الطبيعي مع المحيط، وعلى أساس شعور الفرد أو المجموعة بالمسئولية الكبرى الملقاة على عاتقه وعاتقها في تقويم وتصويب الحركة الاجتماعية أو الثقافية وحتى السياسية... وحتى لا يشعر الحاكم بأنه يملك أن يصادر قرارات الناس ومواقفهم تحت عنوان القداسة، الذي اكتسبه من التقاليد أو الذي حاول إسقاطه على نفسه بفعل عوامل أو دوافع أو انتماءات دينية، حث الإسلام على ملاحقة هذا الحاكم وإن حمل عنواناً إسلامياً لأن أي تغييب لثقافة النقد وحسن الملاحقة ومسئولية المتابعة قد يجعل من الحاكم شخصية تميل إلى الطغيان أو إلى البطر أو قد يتراءى له أنه يسلك بالناس طريق الرشاد فيزعم لنفسه العصمة، ويميل إلى تصديق أوهامه الذاتية ليصل به الأمر في نهاية المطاف إلى الهاوية التي لا يدفع ثمن السقوط بها وحيداً، بل تضطر الأمة لدفع الفاتورة الضخمة من حساب ثرواتها ومستقبل أجيالها وتطلعات أفرادها.
وعلى هذا الأساس لم يعمل النبي (ص) على تربية الناس على مساءلة الحاكم والمسئول فحسب، بل كان هو بنفسه يحرص على تقديم حسابه للناس وهو المعصوم الذي جاء رحمة للعالمين وكانت نعمة مزجاة، ليقول لهم في نهاية المطاف: «إنكم لا تمسكون عليّ بشيء. إني ما أحللت إلاّ ما أحلّ القرآن وما حرّمت إلاّ ما حرّم القرآن...». وليطالبهم أن يأخذوا الحق منه إذا كان لهم ثمة شيء عنده، وأن يحاسبوه على أساس الدستور القرآني الإلهي.
وهكذا سار السلف الصالح من بعد النبي (ص) على هذا الخط الذي أصرّ على الجمهور أن يمارس ثقافة النقد التي هي حقٌ طبيعي له، لا بل هي فرضٌ واجب في كثير من الأحيان لأن غيابها سيجعل من إمكانات التغيير أمراً مستبعداً أو سيكون حائلاً دون تجديد الأمة، ورفدها بالدم الجديد أو يعرضها للانهيار عندما يسلك الحاكم طريق الظلم، فلا يجد من يواجهه أو يتصدى له أو يقول له كلمة تشعره بخطورة ما يُقدم عليه. وقد رأينا أن الإمام علياً (ع) كان يدعو الأمة إلى أن تمارس عملية النقد البنّاء حتى في ظل وجوده على رأس الدولة، حتّى لا يكونوا فريسة لمن طغى من بعده وليعلمهم أن مصير الأمم إنما يقرر من خلال ارتفاع أو انخفاض منسوب النقد فيها، ولذلك قال للناس من حوله: «إن من استثقل الحق أن يقال له والعدل أن يُعرض عليه كان العمل بهما عليه أثقل، فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل».
ومع إقرارنا بأهمية إشاعة ثقافة النقد، إلاّ أننا نفرّق بين النقد البنّاء القائم على الأرقام العلمية والحقائق الأساسية، والذي يسلك طرق الموضوعية وبين النقد القائم على الشتيمة والانفعال والتخويف، والذي لا يفسح المجال أمام الآخر ليرد على الاتهامات بطريقة عقلانية ورقمية وحتى قضائية. وهنا تلتقي ثقافة التخويف التي تصادر الآخر وتمنعه من الردّ بالثقافة الإسكاتية القمعية التي يمارسها الحكام الظلمة ليمنعوا الناس من نقدهم ومساءلتهم.
ولعل مشكلتنا في العالم العربي والإسلامي في معظم النماذج التي تحكم أو في حالات الاعتراض المضادة، أننا غالباً ما نلتقي بهذين النوعين من الثقافة: حاكم يُصادر الأمة ويغرس فيها ثقافة التبعية ويُحرّم عليها النقد، أو يُخيّرها بين أن تسلك سبيل النقد الذي يصل بها إلى السجن تواً، ومعارضة قد تمنع من ينتمي إليها في نظامها الحزبي من ممارسة النقد الذاتي داخل الحزب ضد رئيس الحزب أو القيادة فيه، ليكون ذلك سبيلاً لها لتنفّس الحرية الداخلية التي تعينها على مواجهة الحاكم، وبذلك دخلت الأمة في متاهات المصادرة من فوق والمصادرة من تحت وبات الشذوذ عن القاعدة محدوداً ويتعلق في الأغلب الأعم بأفراد لا بمؤسسات ودخلنا في العصر الخشبي، وبقي النقد محصوراً بدوائر معينة وبمساحات ضيقة وفي بعض الشكليات على مستوى الديكور الإعلامي أو السياسي.
إن سيادة لغة الشتيمة ومفردات اللعن وكلمات السباب في خطابنا السياسي وحتى الفكري في كثير من نماذجنا العربية والإسلامية وفي النموذج اللبناني تحديداً لا تشير إلى قصور فقط في الناحية الأدبية والسلوكية، بل يتخطاه إلى وجود قرار بعدم الدخول إلى العصر من زاوية الثقافة النقدية الحضارية ويؤكد أن ضيق الصدر السياسي الذي يخلق ضيق أفق في المعالجة السياسية سيؤدي إلى تراكم المشكلات التي لا تمنع من حل الأزمات الحالية فحسب، إنما ستكون حاجزاً يمنع الأجيال القادمة من أن تحصل على حقها في الرخاء والتقدم والفوز بشيء من الربح في مسألة الصدارة التي يدخل فيها سباق الأمم.
إننا في لبنان نعيش وسط ملهاة سياسية يصل فيها التوتر إلى الذروة وتبتعد المعالجة الواقعية والعقلانية عن الساحة، وكأنه يراد للبلد أن يبقى في دائرة الاهتزاز لأن أميركا أرادت للمنطقة أن تدخل في مرحلة الانتظار التي لا تُحسم فيها الأمور لأن مصير الوجود الأميركي المباشر في المنطقة لم يُحسم بعد، ولأن ثمة مواقع أوروبية بدأت تستفيد من هذا الجمود لتشاغب بطريقة وأخرى على مواقع غربية أو لتحاول أن ترسم لنفسها خطاً لا يخرج عن السياق العام للمشروع الأميركي، ولكنه يتلمس وسائل ضغط أخرى لتُبقي لبنان في دائرة التجاذب والاهتزاز.
إننا أمام مرحلة جديدة تتصاعد فيها الضغوط الدولية وتتواصل فيها التجاذبات السياسية وربما الأمنية في المنطقة، وتؤثر على لبنان الذي يعود للعب دور الساحة المفتوحة على تناقضات المنطقة، بدلاً من أن يكون موقعاً سياسياً وثقافياً منتجاً لحساب أبنائه ومحيطه ولحساب وسطيته وكونه صلة وصل بين الشرق والغرب
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1218 - الخميس 05 يناير 2006م الموافق 05 ذي الحجة 1426هـ