العدد 1218 - الخميس 05 يناير 2006م الموافق 05 ذي الحجة 1426هـ

نقد المعرفة... لا استعارتها

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

بين كتاب «الأمير» لميكافيلي وكتاب «العقد الاجتماعي» لروسو قرابة سنة من التطور العمراني شهدته أوروبا بين مطلع القرن السادس عشر ونهايات القرن الثامن عشر. ففي تلك الفترة الغنية بالتجارب والاكتشافات كان العالم الإسلامي يغيب عن ساحة التنافس الدولي وتتعرض حواضره لنكسات اقتصادية وهجمات استعمارية. وبسبب ذاك الحصار الدولي تراجعت الثقافة العربية الإسلامية وتقلص الاهتمام بالمعرفة نتيجة تراجع العمران وتفكك أطراف الدولة (السلطنة العثمانية) وتشرذمها إلى بقاع متناثرة تتساقط واحدة بعد أخرى وتتوزعها الدول الأوروبية كغنائم حرب.

هذا المشهد السياسي لايزال يتكرر حتى أيامنا. وهناك عشرات النماذج الماثلة أمامنا من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب. فمنذ تلك الفترة لم يتغير مشهد صعود تلك القوة الجديدة من أوروبا وامتدادها عالمياً مقابل تراجع قوة عالمية (الإسلام) وانغلاقها على نفسها وانعزالها في دوائر ضيقة (دويلات) تكاد تختنق من شدة صغرها وانكماشها.

الانقلاب في موازين القوة بين أوروبا والإسلام سبّبته الكثير من التحولات لعبت المصادفة أحياناً دورها في إنتاج ثروة لمصلحة فريق ضد آخر. والمصادفة بدأت في الجغرافيا وانتقلت لاحقاً إلى التاريخ وما يعنيه من اجتماع بشري تقوده أحياناً عجلة الدين وأحياناً أخرى عجلة الدولة. فالتطور الأوروبي نهض أساساً على قاعدتين تاريخيتين: الدين والدولة. وهذا الأمر حتى الآن لم تدركه «النخب العربية» الجاهلة بتاريخها والقوانين المحركة للتطور. فالنخب العربية لاتزال قاصرة في تطور معرفتها السياسية وتلعب خارج السياق الزمني للتقدم... وحتى الآن لم تكتشف أهمية الدين (الإسلام) في إعادة إنتاج التطور ولا الموقع المركزي لدور الدولة في قيادة التحول.

الفكر الأوروبي المعاصر لم يأتِ من الغيب ولكنه أيضاً لم يهمل وظيفة الدين (المسيحية) كقوة قابضة على العلاقات الاجتماعية. كذلك لم يناهض الفلاسفة فكرة الدولة في أوروبا دفاعاً عن سلطة العشيرة أو الطائفة أو المذهب، وإنما اتجهوا نحو تطوير وظائف الدولة وإعادة صوغ مواقعها في إطار قانوني (دستوري) يضبط العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

الفلسفة الأوروبية في جوهرها العام سياسية. والتجريد النظري لا يعني ابتعاد الفكرة عن الاجتماع بل كان يهدف إلى إعادة توظيف الفكرة (النظرية) في الحياة العملية. وهذا ما فعله الفلاسفة من ميكافيلي إلى روسو.

كان ميكافيلي هو المؤسس الحديث للدور السياسي المعاصر لدولة بدأت تنمو في إطار علاقات قديمة. ومن كتابه «الأمير» شق الفكر السياسي (الفلسفة) المعاصر طريقه الخاص لإعادة إنتاج تصورات نظرية لدور الدولة (والدين) العملي في حياة الناس الاجتماعية.

بعد ميكافيلي جاء دور الإنجليزي فرانسيس بيكون. ولد بيكون في العام م (هـ) ودرس في مدينة كامبردج وتعاطى في الشأن السياسي (الدولة) ودخل مجلس العموم في العام م (هـ) وتبوأ مواقع سياسية رسمية عالية إلى العام م (هـ). وبسبب مواقع بيكون الرسمية وتجربته البرلمانية اكتشف أهمية الدولة ودورها الخاص في قيادة التحول وصوغ الدستور ودور الأخير في رسم الحياة السياسية للناس. وساعدت التجربة السياسية بيكون على إنتاج تصوراته العملية في مجال النظرية وميدان التطبيق.

بيكون لم يتخيل نظرياته السياسية ولم ينتجها في «مقاهي الشيشة» وإنما اكتشفها من خلال وظيفته في البرلمان ومعرفته التجريبية بحاجات الدولة ورغبتها في التطور، مضافاً إليها ثقافته الخاصة التي جاءت من قراءات تعكس تجارب الآخر من الماضي الأوروبي وأيضاً الإسلامي.

بدأ بيكون بنشر مؤلفاته في العام م (هـ) أي بعد سنة من تجربته النيابية وتعامله اليومي بالشأن السياسي العام. وعرفت مؤلفاته الشهرة منذ ذاك الوقت واستمر ينتج على هذه الحال إلى موعد وفاته في العام م (هـ). وفي هذا المعنى يعتبر بيكون من أبرز فلاسفة نهاية القرن السادس عشر، فهو ورث حلقة ميكافيلي واورثها إلى سلسلة طويلة ستأتي بعده وتضيف الكثير إلى نتاجات المعرفة الأوروبية التي ستزدهر وتنتشر في القرن السابع عشر. فهذا القرن سيشكل مفارقة نوعية في تاريخ تطور الفلسفة الأوروبية في فروعها الممتدة جغرافياً من إيطاليا إلى بريطانيا وفرنسا وصولاً إلى ألمانيا.

القرن السابع عشر هو المؤسس الحقيقي لكل فروع العلوم التي دخلت إلى الفلسفة وأعادت إنتاج وظائفها وتبويب مدارسها وتنظيم منهجياتها في سياق عقلاني مختلف عن الحقبات الأوروبية السابقة. فهذا القرن الكبير في عطاءات القارة الجديدة سينتج دفعة واحدة عدة حلقات من السلسلة الفلسفية. ففي إيطاليا سيولد في مدينة بيزا عالم الرياضيات الفيزيائي والفيلسوف غاليليو غاليل في العام (هـ). وقبل أن يرحل في العام (هـ) ستساهم أفكاره النظرية (الرياضيات والفيزياء) في تعديل مناهج الوعي السياسي/ الاجتماعي بسبب إدخالها مادة العلوم في الدراسات الاجتماعية. فبعد غاليليو ستتحول الفلسفة في مختلف فروعها المعرفية والإنسانية إلى علوم اجتماعية وسياسية تعتمد على نسق علمي في التحليل والتفكير نظراً إلى تأثر جيله بنظرياته التي عرفت الشهرة والانتشار في القرن السابع عشر.

جاء غاليليو من حقل العلوم إلى ميدان السياسة في معناها الفلسفي وقبله جاء بيكون من التجربة الميدانية السياسية إلى الحقل الفلسفي. وهذا الاقتراب يشير إلى ذاك الترابط العمراني بين تطور علاقات الاجتماع ونمو دور الدولة في قيادة التحولات السياسية. وهذا ما يمكن ملاحظته في تلك الثورة (الجمهورية الدستورية) التي قادها اوليفر كرومويل في بريطانيا.

ولد الثائر كرومويل في العام (هـ) أي بعد سنة من مولد الفيلسوف (والسياسي) بيكون. وعلى رغم الفارق الزمني بينهما فإن هناك الكثير من المصادفات تجمعها. كرومويل ولد في المنطقة نفسها ودرس أيضاً في كامبردج المدينة التي عاش ودرس فيها بيكون. كذلك أدرك الثائر السياسي كرومويل الفيلسوف السياسي بيكون قبل وفاته واطلع على كتبه وأبحاثه. إلى ذلك وهذا هو الأهم تعاطى كرومويل الشأن السياسي ودخل مجلس العموم البريطاني. هذه المصادفات تعني الكثير لفهم تلك الصلة بين السياسة والدين واتصال الفلسفة بالتحولات العمرانية (الاجتماع البشري).

كرومويل السياسي كان ينتمي إلى تيار مسيحي/ بروتستانتي أصولي (البيوريتان) يتميز بنزعة دينية تطهرية ويدعو إلى نوع من النقاء الديني. وبسبب هذه النزعة الأصولية تعامل كرومويل مع السياسة من موقع تطهري (النقاء الديني) الأمر الذي دفعه إلى العنف وتنظيم ثورة انقلابية ضد الدولة الملكية قادها أيضاً من كامبردج. وأدت الثورة إلى تفجير حرب أهلية بين الجمهوريين والملكيين امتدت سبع سنوات وتتوجت بإعدام الملك البريطاني في العام (هـ).

إلا أن ثورة كرومويل التي تعتبر من اوائل الثورات الجمهورية وابرزها في تاريخ أوروبا الحديث انتهت إلى تأسيس نزعة استبدادية تسلطية (الانفراد بالحكم) أسهمت لاحقاً في سقوطها وعودة الملكية (دستورية هذه المرة) إلى الحكم.

توفي كرومويل في العام (هـ) بعد أن فشل في توريث ابنه السلطة الجمهورية، إلا أن ثورته الدستورية العنيفة تركت تأثيراتها السياسية على مجرى تطور الفلسفة. فبعد كرومويل وخلال حياته أخذ الفلاسفة الجدد يعيدون النظر بالكثير من العناصر التي تلعب دورها في دفع الناس نحو التحول الاجتماعي. فالثورة أحدثت نقلة نوعية في اكتشاف ذاك الارتباط العميق بين العمران والدستور ودور الدين في الدفع نحو التطور وموقع الدولة في قيادة وتنظيم ذاك التحول. وهذا التأثير السياسي المباشر سيظهر لاحقاً في الوعي الفلسفي للنخبة الأوروبية في القرن السابع عشر... وهو القرن الذي سيشهد تحولات كبرى في سياق التطور المعرفي للقارة الجديدة.

هذا الاتصال بين الدين والدولة وبين المعرفة والعمران لاتزال تجهله «النخبة العربية» حتى الآن. والمشكلة مع هكذا نخبة أنها لاتزال تقرأ الفلسفة الأوروبية خارج سياقها الزمني والعمراني وتأخذ منها الأفكار (النظريات المجردة) من دون اكتشاف العلاقة بين الفكرة والزمن (الوقائع الجارية) وبالتالي العلاقة بين الفلسفة والعمران. وتجريد «النخبة العربية» الأفكار الأوروبية من تاريخها أسهم لاحقاً في تعزيز تلك التوهمات الايديولوجية وتضخيمها من دون وعي للأسس العمرانية التي نهضت عليها والعوامل التي ولدّتها.

إعادة قراءة الفكر الأوروبي (الفلسفة) من جديد ضرورة تفرضها شروط المعرفة وما تعنيه من تداخلات كونية أخذت تغزو القرى والبيوت من الفضاءات الخارجية. وهذه القراءة لابد أن تكون نقدية ومختلفة عن عمليات الترجمة والنقل. فالقراءة النقدية تختلف في نمطها التكويني لأنها غير محايدة وتعتمد أساساً على منهج البحث لا التقليد وتتعامل مع الفكر بصفته قوة لها وظيفة سياسية. فالقراءة النقدية تنقل المتلقي من منطق الاستعارة إلى منهج التغيير

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1218 - الخميس 05 يناير 2006م الموافق 05 ذي الحجة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً