مسيرة الإصلاح والتغيير طويلة وعميقة وتراكمية، قد لا يكون حسابها الدقيق هو الأيام والشهور بل ولا حساب السنوات والدهور، بل هي تحسب بالإرادة والتصميم والتضحية والتحدي والإصرار، يضاف إلى ذلك رسم الطريق بمعالم واضحة لا تنفلت الجهود فيها ذات اليمين وذات الشمال وهي في غفلة عن هدفها الرئيسي.
فحين نقرأ الإصلاحات التي حدثت في أوروبا ربما نتناسى الآلام والتضحيات والزمن الذي وقف وراءها حتى أصبحت تلك البلاد بلاد الحريات والقوانين والضوابط. ربما ننسى كذلك تمسك الحرس القديم في أوروبا بهيمنته على عقول الناس ونفوس الجماهير على رغم تهافت ما عنده، وعلى رغم الضغوط التي كانت تتجه إليه من العلماء والمثقفين وشرائح واسعة من المتعلمين وهي تطالب بالتغيير والإصلاح والتقنين.
بحسب تصوري فإن المملكة العربية السعودية (في سعيها الإصلاحي) تقفز بطريقة رياضية سليمة ومتوازنة ساعية وراء الانتقال من بلد «الحوار الوطني» إلى «وطن الحوار»، وقد تجلى ذلك في صورته البهية في مؤتمر مكة الذي انعقد قبل حوالي شهر من الآن، إذ صدر بيانه الختامي بلمساته السعودية، فكان بياناً بمستوى النصر في المملكة العربية السعودية التي تجد السعي إلى الوصول إلى مجتمع متجانس ومندمج على أرضية صلبة من الحوار والاحترام.
أما التجلي الثاني (خلال هذا الشهر) فهو ملتقى الحوار الوطني الذي عقد في أبها تحت عنوان «نحن والآخر»، فعلى رغم أن مسيرة ملتقيات الحوار على غير ما توقعت النخب منها، فإن النتائج النظرية التي انتهت إليها هي في واقع الحال إرهاصات ومقدمات لخطوات عملية تتحرك صوب الاندماج والانصهار لكل مكونات المجتمع في بلدهم الكبير ومساحتهم الجغرافية الشاسعة (الوطن).
في مقالي الماضي (ماذا بعد بلاغ مكة؟) أشرت إلى ضرورة أن تتحرك كل الأطياف والمجتمعات الصغيرة في وطننا جنباً إلى جنب لتساعد في إنجاح مسعى الدولة ولتأخذ المبادرة في استدعاء التوصيات والبيانات إلى أرض الواقع ما وجدت لذلك سبيلاً، وفي هذا المقال لن أخفيك - عزيزي القارئ - ما يختلج في داخلي من خوف على هذه الخطوات الطيبة التي تتحرك البلاد باتجاهها، ولي في ذلك مبرّراتي التي أضعها بين يديك، بغية التنبه والاحتراز، لغرض إنجاح المسعى القائم نحو الاحترام والاندماج.
المبرر الأول: هو قلة النماذج في الدول العربية والإسلامية التي تشرك مواطنيها بعيداً عن خلفياتهم الفكرية والتراثية وتصهرهم في هم واحد هو «الوطن»، فغالبية الدول الإسلامية تعاني من أزمة حقيقية في التنوع الذي يتمدد على ترابها، من دون أن تجد له جامعاً حقيقياً يعترف به ويحترمه ويعطيه، وفي المقابل يجني ثمار الاستفادة من ولائه وطاقاته وإمكاناته.
قلة النماذج وندرتها أفقدت التجارب اللاحقة أمراً ضرورياً وهو التراكم المعرفي والخبروي، الذي يقربنا غالباً من معرفة النسبة التقديرية لنجاح أي تجربة لاحقة إذا ما قرأناها وقايسناها بالتجارب السابقة.
المبرر الثاني: هو أن بعض التجارب الدمجية كانت محدودة جداً، وتفتقد إلى قدر كبير من الصراحة والشفافية، أما لأنها محاولات دمج في حقول وقضايا هامشية لا تشبع تطلعات الآخر، أو لأن النسبة فيها نسبة مجحفة تصل في بعض الأحيان إلى حد «العدم» مقابل الأطراف الأخرى، أو الآخر المسيطر أياً كان ذلك الآخر، أو تكون تلك التجارب محدودة بلحاظ الزمن، فلا تبدأ حتى تنتهي بأسرع من لمح البصر بسبب الإحباط، وعدم الاطمئنان من الطرفين، ويعود الجميع إلى المربع الأول وكأن شيئاً لم يكن.
المبرر الثالث: أن كل جديد وتجديد أو إصلاح وتغيير لابد أن يرى نفسه وجهاً لوجه مع من أسميته في بداية المقال «الحرس القديم»، الذين ساقوا البلاد سوقاً إلى ما هي غنية عنه من حالات التشنج والمفاصلة، ما أشعر الآخرين بالغربة في أوطانهم، وبالانفصال النفسي بينهم وبين جنسياتهم وبين كيانهم والبلد الذي يأكلون من خيره ويستمتعون بعطاياه في الوقت الذي يبذلون جهودهم ويستنفدون طاقاتهم خدمة وإخلاصاً وحباً لتراب بلدهم.
هذه العقلية لا تسمع بالتغيير ولا تقبل به، وستبقى كل محاولات الإصلاح والسعي إلى الاندماج بين أبناء الوطن مستهدفة من قبل هؤلاء، وسيعملون طاقاتهم لافشال المشروعات الخيرة التي يسعى لها قادة البلاد، فالقائد ينظر نظرة شمولية واسعة وعميقة للظروف والمستجدات والخطط والمؤامرات التي تحاك في العلن (وليس من وراء ستار) للاستفادة من الاختلافات والتباينات في المجتمع الواحد من أجل إضعافه وشل قدراته والتمكن منه، وعلى طبق هذه النظرة يأتي سعي القادة إلى الاندماج والتلاقي الذي يحبه الله ورسوله بين إخوة الإسلام والدائنين به، إعزازاً لهم وتحصيناً لبلادهم، لكن وعلى النقيض من هذه العقلية المنفتحة تأتي عقلية الانغلاق والتحجر، لتعمل بعقلية «الفزاعة» التي ترى في اندماج المواطنين خوفاً على ثوابت الدين، وتمييعاً لعزائمه، وتساهلاً في رخصه، وإضعافاً للصبغة التي عرفت بها بلاد التوحيد.
لن تبخل عقلية التشبث بالواقع دون النظر لفجواته، ورفض الإصلاح والتغيير من دون النظر إلى إيجابياته من الاستفادة السيئة والتعبوية من الحوادث السياسية الساخنة المتحركة حولنا لتؤكد مقولاتها التي تستبعد الاندماج والتوافق بين قوى المجتمع الواحد، ولتؤكد أن كل الشعارات الوحدوية هي خدعة ومؤامرة هدفها إضعاف الواقع الإسلامي، والنيل من بلاد المسلمين وقيمهم ومقدساتهم.
عليه، يجب أن تبادر كل القوى والشرائح والأطياف في المجتمع لتعلن صوتاً واحداً أنها مع الاندماج، والمواطنة العادلة، والاحترام للآخر، والشراكة معه في خدمة الوطن، وأن صوتها وجماهيرها إلى جانب القيادة التي تحاول صهر الجميع في قالب واحد هو «الوطن» ولا شيء سواه، بعد الله سبحانه، حتى لا تكون الأصوات المرتفعة والبارزة هي أصوات الرفض والتمزيق لنسيجنا الوطني المتعدد.
كاتب وعالم دين من المملكة العربية السعودي
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1214 - الأحد 01 يناير 2006م الموافق 01 ذي الحجة 1426هـ