العدد 2450 - الخميس 21 مايو 2009م الموافق 26 جمادى الأولى 1430هـ

الاختلاف السياسي بين القاضي والفقيه

صاعد الأندلسي في عصر أمراء الطوائف (1)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

عاصر القاضي المؤرخ صاعد الأندلسي الفقيه الفيلسوف ابن حزم الظاهري وتتلمذ عليه وتراسل معه وكتب عنه وانتقده في سياق قراءته لتاريخ العلوم في الأندلس في فصل من كتابه «التعريف بطبقات الأمم». فابن حزم بشهادة صاعد اعتنى «بصناعة المنطق» و»قراءة العلوم وتقييد الآثار والسنن» وألف في المنطق «كتاب التقريب لحدود المنطق بسط فيه القول على تبيين طرق المعارف واستعمل فيه مثلا فقهية وجوامع شرعية، وخالف أرسطو طاليس واضع هذا العلم في بعض أصوله مخالفة من لم يفهم غرضه ولا ارتاض في كتبه، فكتابه من أجل هذا كثير الغلط بين السقط» (ص 182).

إلى مخالفته في مسائل المنطق انتقد مذهب ابن حزم الظاهري «في أصول الفقه وفروعه» وهو «مذهب داود بن علي بن خلف الأصبهاني ومن قال بقوله من أهل الظاهر ونفاة القياس والتعليل». إلا أنه يضعه في مصاف محمد بن جرير الطبري من ناحيتي «الاستكثار من علم الشريعة» وتآليفه «في الفقه والحديث والأصول والنحل والملل وغير ذلك من التاريخ والنسب وكتب الأدب والرد على المعارضين». (ص 183). فهما من أكثر المؤلفين كتابة في تاريخ «دولة الإسلام» إلى عهده.

تراوح رأي صاعد بابن حزم بين الإعجاب الشديد فهو من «مشاهير أهل البرهان من علماء الأندلس» (ص 158) ونقده الصارم لمواقفه الفقهية وتبسيطه للمسائل المنطقية واختزاله لها. ويرجح أن يعود موقفه المضطرب من حياة ابن حزم وأفكاره إلى دوافع مذهبية وسياسية. فالقاضي صاعد يتعارض مع ابن حزم في مسألتين: رفضه للمذهب الظاهري وتقييمه السلبي لسياسة دولة العامريين في نهايات عهد العصبية الأموية (المروانية) وهي الدولة التي تعامل معها ابن حزم ووالده.

القاضي قرأ التاريخ من زاوية اتصال الحاكم بالعلوم في مختلف حقولها، وكل من شجعها لقي منه المديح ونال نقده العنيف كل من عارضها بغض النظر عن سياسات الحاكم الاقتصادية والعسكرية. وبرأي صاعد تعتبر «الدولة العامرية» من أسوأ فترات الحكم الأموي بسبب موقفها السلبي من العلوم غير الشرعية التي سبق وشجعها أمراء الدولة الأموية الأقوياء خصوصا الحكم بن عبدالرحمن الناصر.

اعتنى الحكم في أيام والده الناصر بالعلوم و»استجلب من بغداد ومصر وغيرها من ديار المشرق عيون التواليف الجليلة والمصنفات الغريبة في العلوم القديمة والحديثة». وبعد رحيل والده واصل الحكم سياسة تشجيع أهل العلم وجمع الكتب وأنفق المال على ترجمتها «ما كان يضاهي ما جمعته ملوك بني العباس في الأزمان الطويلة» (ص 162). وبسبب تلك السياسية «تحرك الناس في زمانه إلى قراءة كتب الأوائل وتعلم مذاهبهم» إلى أن توفي سنة 366 هجرية (976م) وتولى ابنه الغلام هشام المؤيد المسئولية بعده. وبرأيه تدهورت أوضاع العلوم منذ أيام هشام بسبب تغلب حاجبه أبو عامر (محمد بن عبدالملك بن عامر المعافري القحطاني) على الدولة فاستغل صغر سنه للسيطرة على مقدرات الحكم و»عمد أول تغلبه عليه إلى خزائن أبيه الحكم الجامعة للكتب المذكورة وغيرها» وأحضرها إلى «خواصه من أهل العلم بالدين وأمرهم بإخراج ما في جملتها من كتب العلوم القديمة المؤلفة في المنطق وعلم النجوم وغير ذلك من علوم الأوائل حاشى كتب الطب والحساب (...) فأمر بإحراقها وإفسادها فأحرق بعضها وطرح بعضها في آبار القصر وهيل عليها التراب والحجارة (...) وفعل ذلك تحببا إلى عوام الأندلس وتقييما لمذهب الخليفة الحكم عندهم إذ كانت تلك العلوم مهجورة عند إسلافهم مذمومة بألسنة رؤسائهم» (ص 163-164).


تاريخ الأفكار

بسبب كراهية صاعد الأندلسي لفترة دولة العامريين في نهاية العهد الأموي سحب موقفه ذاك على كل الفئات التي تعاملت معها خصوصا والد ابن حزم الذي كان «أحد العظماء من وزراء المنصور محمد بن عبدالله بن أبي عامر ووزراء ابنه المظفر بعده والمدبر لدولتهما، وكان ابنه الفقيه أبو محمد (ابن حزم) وزيرا لعبدالرحمن المستظهر بالله بن هشام بن عبدالجبار بن عبدالرحمن الناصر لدين الله ثم لهشام المقتدر بالله بن محمد بن عبدالملك بن عبدالرحمن الناصر لدين الله، ثم نبذ هذه الطريقة وأقبل على قراءة العلوم» (ص 182).

جاء موقف قاضي طليطلة صاعد من ابن حزم الظاهري في سياق نظرية قرأ من خلالها تاريخ الأندلس في إطار مراتب العلوم وتطورها التاريخي وانتقالها من مكان إلى آخر ومن زمن إلى غيره ملاحقا صعودها في فترات من تاريخ الدول الإسلامية وهبوطها في فترات أخرى. وبتأثير من تلك النظرية التي أخذ بها الكثير من العلماء والمؤرخين بعد رحيله في العام 462 هجرية (1069م) أقدم صاعد على قراءة تاريخ الأندلس في سياق مفهومه لتطور الأفكار فتحددت رؤيته العامة لمختلف الحكام والحكومات والفترات انطلاقا من منهجه الفلسفي ذاك.

بدأ صاعد بقراءة تاريخ الأندلس قراءة سريعة في مرحلة ما قبل الإسلام. فالأندلس كانت «في الزمان القديم خالية من العلم (...) إلا أنه يوجد فيها طلسمات قديمة في مواضع مختلفة وقع الإجماع على أنها من عمل ملوك رومية إذ كانت الأندلس منتظمة لمملكتهم. ولم تزل على ذلك عاطلة من الحكمة إلى أن افتتحها المسلمون» سنة 92 هجرية/ 710م (ص 155). وبداية اعتنى أهل الأندلس بعلوم الشريعة واللغة «إلى أن توطد الملك فيها لبني أمية» (ص 156).

استقرت الدولة الأموية واتخذت من قرطبة عاصمة «إلى زمان الفتنة وانتشار الأمر على بني أمية فافترق عند ذلك شمل المُلك بالأندلس وصار إلى عدة من الرؤساء حالهم كحال ملوك الطوائف من الفرس» (ص 157).

لم يهتم صاحب «طبقات الأمم» بتاريخ البشر ولا حوادث السياسة والحروب، فالأمر لا يعنيه إلا بحدود صلة الحادث بنظرية مراتب العلوم ودرجاتها وتطورها. فالأندلس قبل الإسلام خالية من العلوم باستثناء طلسمات. وبعد الإسلام جرى الاهتمام بداية باللغة والعلوم الشرعية، إلى أن جاءت الفترة الأموية فبدأ الاهتمام بنقل العلوم وترجمة كتب الأوائل.

لم يكثرث صاعد بالتاريخ العام، بل بحث عن تاريخ العلوم وقرأ السياسة في ضوء مراتب علومها. فالطبقات عنده هي تلك الأمم التي اهتمت بميدان المعرفة وتلك التي لم تهتم بها. لذلك تركز منهجه الفلسفي على تطور الأجيال عالميا وانتقال علومها من أمة إلى أخرى، فوضع الأندلس من جملة «الأمة السابعة وهم العرب» (ص 111) باسطا حدها الجغرافي من الخليج الرومي «الخارج من ما تقابل طنجة (...) ثم ينتهي إلى مدينة صور من مدائن الشام» (ص 157).

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2450 - الخميس 21 مايو 2009م الموافق 26 جمادى الأولى 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً