العدد 3143 - الجمعة 15 أبريل 2011م الموافق 12 جمادى الأولى 1432هـ

قانون الشعوب وعَودٌ إلى فكرة العقل العام

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

مَنْ منّا لم يسمع بـ جون رولز؟ إنه باختصار أشهر علماء الفلسفة السياسية وأستاذها بجامعة هارفارد الأميركية والتي يزيد عُمرها عن الـ 375 عاماً. ربما اكتشفه العالَم أكثر بعد العام 1971 عندما نشَر كتابه الفريد «نظرية العدالة» لكن إتمامه لذلك البحث عبر نشره «العدالة كإنصاف» زاد من اهتمام المحاضِر الأكاديمية به وبمتانة نظرياته العلمية وجِدَّتها.

في كتابه «قانون الشعوب وعَودٌ إلى فكرة العقل العام» والذي نحن بصدده في هذه المقالة يتحدث جون رولز عن التزام الشعوب في علاقاتها المتبادلة بالمبادئ والمثل العليا. ورغم أن رولز ينطلق في بحثه بالاعتماد على الشعوب ذات التوجّه الليبرالي إلاّ أنه يُقابل ذلك بشعوب أخرى سمَّاها بـ السَّمحة تجاوزاً منه للطبقيّة التي قد يخلقها البعض للتفريق بين الشعوب.

يتساءل رولز. لماذا لا تدخل الدول الأوروبية في حروب مع بعضها البعض في هذا الأوان؟ القضية باختصار بالنسبة لديه هي أن دوافع الحرب التي كانت موجودة في السابق والتي دفعت بالفرنسيين والإنجليز والنمساويين والإسبان لأن يتقاتلوا لم تعُد قائمة. ففي السابق كان الطموح لا يتعدّى الاستيلاء على الأرض وتوسيع مجال السلطة أو من أجل العقيدة الدينية.

اليوم لا توجد مُحفِّزات كتلك الموجودة في السابق. والأهم من كلّ ذلك هو اختلاف بُنيَة المجتمعات الأوروبية الداخليّة. حينها كان الناس أزيد عدوانية وشرّاً، وميَّالين أكثر إلى الانتقام بسبب الهمّ الاجتماعي القائم على مُغالبة التقسيم الطبقي ما بين سُخْرَة وأسياد وطبقة أرستقراطية، في حين أن استقرار الحالة الاجتماعية ونمو المؤسسات الناظمة وترسيخ جانب العدالة، قد نقل المعركة من مادية إلى أخرى تتعلق بكيفية المحافظة على الحقوق المشتركة.

فيما يتعلق بالمسألة الدينية وعقيدتها فقد تبدَّلت القناعات الأوروبية الشعبية حيالها من القبول الحصري بمجتمع محلّي خالص إلى القبول بمجتمع شعوب متعددة دينياً وإثنياً لكن تجمعها «مشاعر وجدانية مشتركة» حسب تعبيره. يقول رولز «التعدديّة المعقولة أمر لا يستدعي منا أسفاً؛ لأن وجود تعدديّة معقولة هو الذي يسمح للمجتمع بقدر أكبر من العدالة السياسية ومن الحرية السياسية». وهو ما بدَّل صورة الأوروبيين أمام بعضهم البعض كلياً، وقضى على التقسيمات الكاثوليكية والبروتستانتية واللوثرية وغيرها من الأوصاف.

لقد كانت البدائل لخلق وحدة اجتماعية أمام تلك الشعوب هو خلق «مؤسسات اجتماعية وسياسية تقود (المواطنين) من الناحية الفعلية إلى اكتساب المعنى الملائم للعدالة خلال نشأتهم وقيامهم بدور في المجتمع، عندئذ سوف يكونون قادرين على أن يفهموا ويُطبقوا هذه المبادئ والمثل العليا على أية حالة تُعرَض لهم. ومن الطبيعي أن تكون تصرفاتهم انطلاقاً من هذه المبادئ وفقاً لما تقتضيه الظروف» (راجع قانون الشعوب وعود إلى فكرة العقل العام).

يذكر رولز نقطة جديرة بالاهتمام في هذا المجال تتعلق بنقطة الارتكاز في الوحدة الاجتماعية والسياسية بالنسبة للمجتمعات الأوروبية. فهو يرى أنها تاريخياً لا تعتمد أبداً «على الوحدة الدينية وإنما على جذور سياسية معقولة» تدعمها حالة إجماع وتسالم المُكوّنات داخل مجتمع الشعوب (الذي هو في أصله متعددٌ من الناحية الدينية) على الأفكار والحقوق وصيغة أخلاق العيش المشترك والقبول بالحدود بكل سماحة وهو ما جعلها في مأمن.

يؤكِّد رولز على فكرته تلك بإشارته إلى التجربة النازية في ألمانيا (Nationalsozialismus) ما بين عامي 1933 – 1945 حين نَحَتْ باتجاه «المعاداة التكفيرية للساميّة» على أساس ديني وفقاً لتصوّرات ذكرها أدولف هتلر في نهاية الفصل الثاني من كتابه «كفاحي»، بمعنى مخالفتها للمنتظم التاريخي لهذه الشعوب والقائم على أسس سياسية معقولة. لذا فإنه وعندما استيقظ الأوروبيون على هول الهولوكوست لم يستطيعوا هضم تلك الإبادة حتى داخل المجتمع الألماني نفسه الذي صَعَّد هتلر والحزب القومي الاشتراكي إلى السلطة ودعمها بقوة.

في السابق وقبل مجيء النازية بـ 361 عاماً وبالتحديد في سبتمبر/ أيلول 1572 كان البابا بيوس الخامس يذهب إلى الكنيسة الفرنسية سانت لويس بمعيّة 33 كاردينالاً لأداء صلاة الشكر على إنجاز المذبحة التي أوقعها الكاثوليك بحق الهوجنوت البروتستانت والتي راح ضحيتها 15 ألف فرنسي بريء. أما عندما استقرّت الوحدة الاجتماعية في أوروبا على جذور سياسية معقولة كان الألمان يُشاهدون محكمة نورمبرغ وحفلة إعدام 85 قيادياً نازياً دون تأفف. وكان موسوليني يُقتاد بعد الهزيمة في دونغو ببحيرة كومو دون أن ينصره أحد من الإيطاليين.

القضية أمام ذلك المشهد العام هي حاجة الشعوب أيَّاً كانت، سواء ليبرالية أم سمحة (كما يُسميها رولز) إلى فضاء اجتماعي أوسع من التقسيمات الحادة الجارية اليوم. فالمطلوب هو صيغة تُلبِّي بما يسمح به الحق والمثل العليا والمصلحة (البراغماتية) كما كان يُحب أن يصفها روسو في العقد الاجتماعي. لأن المعالجات الموسمية لم تعد قادرة على الصمود أمام الأزمات التي تصطدم بها المجتمعات. والأهم من كلّ ذلك هو صناعة التَّسالم ما بين الطوائف على نوع من الحقوق التي تكون محلّ إجماع أشمل وليس منقوصاً. (وللحديث صلة)

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3143 - الجمعة 15 أبريل 2011م الموافق 12 جمادى الأولى 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 12:29 م

      التسامح كقيمة أخلاقية كونية

      مقال جيد وكم أتمنى أن تفلح شعوب العالم العربي في تكريس قيم التسامح وتتجاوز آفة الصراع المذهبي المدمرة لكيانها. وفعلا فإن الولقع الراهن ليملي على العرب مجاوزة المذهبية الضيقة والفتن والارتهان للماضي

اقرأ ايضاً