تتداول في المجالس البحرينية هذه الأيام الكثير من الحكايات ذات العلاقة بأحداث الأيام الأخيرة. البعض منها مفرح، ويحتضن التفاؤل، والكثير الآخر منها يثير الهموم، وينضح بالكآبة وينشر الألم. تلك هي الظاهرة الجماعية/ الاجتماعية الخطيرة التي أصبحت تسيطر على أحاديث تلك المجالس، وتتولى صياغة أذهان مجموعات متفرقة من المجتمع البحريني.

قد تبدو تلك الأحاديث مبعثرة في الشكل، وصغيرة في المساحة، لكنها تتماهى كي تشكل، في نهاية المطاف، كتلة واحدة صلبة، غير قابلة للتفتيت، يحكمها سلوك واضح، ويسيرها منهج تتحكم فيه نزعة متنامية من التشاؤم في نظرتها للأوضاع الحالية، ومدخلاً من الانقباض النفسي عند معالجتها للآفاق المتوقعة لتطورها.

أصحاب هذه النظرة، لا يكفون عن ترداد مقولات مثل «ليس هناك من بارقة أمل»، و «المستقبل الذي ينتظر البحرين مظلم، وليس هناك ما يبشر بالخير»، و «كيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه، ولا يبدو أن هناك بارقة أمل تلوح في الأفق القريب»... إلى آخره من تلك العبارات الملفوفة في أردية سوداء التي تنذر بانعكاسات مجتمعية خطيرة بفعل الأسباب التالية:

1 - تناميها وكبر حجمها واتساع رقعة مساحتها الاجتماعية التي تشغله، وامتلاكها القدرة والمكونات التي تبيح لها التحول، في نهاية الأمر، شاء من يتداول أخبارها أم أبى، وقبل بمن يأخذ بها أم رفض، من مجرد شعور فردي آني يسكن الحاضر، إلى حالة اجتماعية واسعة الانتشار تغرس جذورها عميقة في أغوار المجتمع، كي تصبح ركناً أساسياً من مكوناته الحالية، ودعامة راسخة من بنائه المستقبلي. ومع تنامي الظاهرة السوداوية وتعقدها، يصبح من الصعوبة بمكان استئصال شأفتها أو حتى مجرد التحكم فيها للحد من نموها.

2 - حجب تفكير كتلة لا يستهان بها من التكتلات البشرية السكانية عن رؤية كل ما هو إيجابي، واضطرارها في مراحل لاحقة إلى القبول بالتقوقع في ذلك الإطار السلبي، الذي يمنعها من التفاعل الحي المطلوب، مع أي من الدعوات المجتمعية الهادفة إلى تشجيع التفكير الإيجابي الديناميكي. وهنا تفقد تلك الكتلة قدرتها على نبذ الفكر السوداوي المتشائم. وبقدر ما تتنامى النزعات السوداوية، نشاهد أيضاً، وعلى قدم المساواة تراجع النوايا الإيجابية، حتى تصبح الغلبة لمحصلة إحلال المنهج السوداوي، وطرد المذهب الإيجابي، وتتم السيطرة السلبية على الغالبية العظمى من المجتمع، والتي من الطبيعي، والمتوقع أن تتولى تسيير دفة حركته، وتتحكم في اتجاهها، ليس صعوداً نحو الأعلى، بقدر ما هي انحدار نحو الأسفل.

3 - شق المجتمع بشكل عمودي، وشطره إلى نصفين غير متكاملين، وليسا متناغمين أيضاً، فيعرقل النصف الأول منهما حركة النصف الآخر، ويمنع ذو النظرة السوداوية منه ذلك المتفائل الحامل للفكر الإيجابي، الراغب في طي صفحات الماضي، بما تحمله من آلام، وفتح صفحات الحاضر والمستقبل، بما تحتضنه من آمال. ولا ينبغي هنا الاستهانة بمثل هذا الصدع الذي سيحفره ذلك الانشقاق في جسد المجتمع البحريني، إذ إن الحركة العرجاء التي سيولدها الاختلاف في النظرة، هي شرخ بنيوي يكون الذاكرة التاريخية للمجتمع، والحاضنة الطبيعية لحركته المستقبلية.

4 - التقوقع الداخلي المتشائم للمجتمع، عوضاً عن الانفتاح الخارجي المتفائل، الأمر الذي يحصر المجتمع برمته، جراء تأثير تلك القوة ذات القدرة المتنامية لهذه النظرة السوداوية، من جهة، والشلل الذي سيطبق على حركة القطاع المتفائل من جهة أخرى. فمن غير المتوقع أن يكون مثل هذا المجتمع المنشطر داخلياً، والمتشائم ذهنياً، قادراً على التفاعل مع أيٍّ من المجتمعات الخارجية الأخرى المتفائلة والباحثة بفضل تلك النزعة التفاؤلية، دوماً، عن حليف يشاطرها مثل تلك النظرة، ويسير في اتجاهها، بدلاً من التناقض معها والتحرك في اتجاه معاكس لها.

هذا يستدعي شن حرب سريعة على النزعة السوداوية، دون التريث، كي نعطيها فرصة كسب قصب السبق، فتتمكن من نشر ثقافتها المتشائمة في صفوف أوسع قطاع ممكن من الناس. بالطبع، ليس هناك من يتوهم أن هذه مهمة سهلة، إذ إنها في حقيقة الأمر، وعندما يدخل مجتمع ما في نفق السوداوية المظلم، مهمة شبه مستحيلة، وتحتاج، بالإضافة إلى الصبر، برامج علمية، وخططاً وطنية تفصيلية، مصحوبة بحملات مكثفة متواصلة، يشارك فيها الأفراد، وإدارات الدولة، سوية مع منظمات المجتمع المدني، على أن تضع نصب أعينها جميعاً وقف تناقل الأخبار - دون إخفاء الصحيحة منها، بما فيها تلك المؤلمة - التي تغرس بذرة النزعات السوداوية في نفوس الناس، بعد أن تنزع منها تلك المتفائلة.

هناك اليوم حرب خفية بين النظرات السوداوية المتشائمة، وتلك النزعات الإيجابية المتفائلة، وعلى كل من يريد أن يساهم في بناء بحرين المستقبل، أن يبادر إلى طرد الأولى، والترحيب بالثانية، دون إغراق غير منطقي في التفاؤل، ولا طمس غير عادل للحوادث، بما فيها تلك غير المتفائلة، لكن بعد الحرص على معالجتها والحد من سلبياتها