يقف من يحاول قراءة الأوضاع السياسية البحرينية الراهنة بشكل صحيح، من أجل فهم تضاريس اللوحة التي تنتصب أمامه، حاملة معها تفاصيل في غاية التعقيد، يحتاج فك رموزها إلى خبرة سياسية غنية، قادرة على التحكم في سلوكها السياسي الذاتي، ومتمكنة من التصرف السياسي، الجماعي أو الفردي على حد سواء، الحكيم، والبعيد عن أي انفعال غير محسوب العوائق، من شأنه أن يقود البحرين، فيما لو أطيعت أوامره، نحو التهلكة، ويدخلها في نفق مظلم طويل يصعب التكهن بمتى يمكنها الخروج منه، كي ترى النور مرة أخرى.
أول ما ينبغي أن يقرأه الناظر إلى تلك الأوضاع هو حاجة المواطن البحريني الملحة للأمن الحقيقي لا الشكلي، الذي يمتد من الحماية الشخصية الفردية، ويتطور كي يصل إلى الاطمئنان الجماعي، الذي لا ينفصل، إطلاقا ومهما حاولنا، عن الأمن المهني أيضاً. تأسيساً على ذلك يتطلع المواطن نحو الدولة ومؤسساتها كافة، مناشداً إياها أن توفر له كل مقومات ذلك الأمن الشمولي الذي نتحدث عنها، كي يستعيد ذلك المواطن كل عناصر الاستقرار العميق الذي وفره له المشروع الإصلاحي لما يزيد على عقد من الزمان. حالة الأمن المطلوبة هذه ليست عملية مبتورة ومحصورة، كما تبدو من الخارج، في الأجهزة الأمنية وتلك الملحقة بها أو المتعاونة معها، بقدر ما هي سياسة شمولية تعكس برنامج عمل وطني متكامل تشارك فيه مؤسسات الدولة كافة، بما فيها الإعلامية، بل وحتى تلك التي توفر الخدمات الصحية.
وثاني ما سوف يلمسه ذلك الناظر هو تمنيات المواطن بأن تستعيد البحرين الثقة العميقة التي كانت قائمة بينه وبين الدولة، والتي كانت قائمة وعلى قوائم راسخة قبل اندلاع الأحداث الأخيرة. لكن، وكما يعرف الجميع فإن تحقيق هذا الطلب، يقتضي سلوك طريق في اتجاهين يتكاملان بشكل جماعي. فمن ناحية، بات من واجبات المواطن غير القابلة للمناقشة، أن يستجيب لمتطلبات حالة السلامة الوطنية، بما تفرضه من قيود تحد من حرياته الشخصية والاجتماعية، وما تفرزه من ظروف يصعب تحمل استمرارها أو تمدد فترة تطبيقها، وفي مقابل ذلك يتوقع المواطن أن تبذل الدولة قصارى جهودها كي تخفف من «المضايقات الفردية» التي قد يحتاج لها تنفيذ مقتضيات تلك «الحالة»، وتقلص من مساحة دائرة الإجراءات الأمنية، وعلى وجه الخصوص المباشرة منها. علاقة «التوقع المتبادل» بين المواطن والدولة، التي تشبه إلى حد بعيد حالة من يسير وسط حقل من الألغام، تولد حالة معقدة بحاجة إلى صبر المواطن، وحكمة الدولة، القائمين على فرضية لا يمكن التفريط بها وهي المحافظة على المكاسب كافة، التي حققها مشروع الإصلاح السياسي.
أما ثالث ما سوف يشعر به ذك الناظر بعينه الفاحصة، هو ما يتوخاه المواطن من أجهزة الدولة أيضاً، بأنها وهي في خضم اندفاعها لتحقيق الشروط الأمنية التي لا يمكن أن تساوم عليها سياسات السلامة الوطنية، ربما باتت من مسئوليتها أن تتحاشى، قدر ما تسمح به متطلبات الحفاظ على الأمن، التجريم الجماعي، وتبتعد، قدر الإمكان، عن الانجرار نحو أي «سلوك انتقامي جماعي»، هو الآخر، من شأنه أن يزرع أي شكل من أشكال الحقد الجماعي، بل وحتى مجرد الامتعاض الفردي، بين المواطن والدولة. حالة «التجريم الجماعي»، وما يقابلها من ردود فعل حاقدة، تفقد المجتمع، ومعه مؤسسات الدولة، إلى جانب منظمات المجتمع المدني، أياً من تلك العناصر التي يحتاجها ذلك المستوى الراقي من الأمن، الأمر الذي من شأنه تحويل عودة الحياة الطبيعية للمجتمع، مسألة معقدة، تحتاج إلى جهود مكثفة غير طبيعية قادرة على توفير المناخات الملائمة التي تسمح بعودة الحياة الطبيعية إلى دورتها الاعتيادية.
يوصلنا كل ذلك إلى المحطة الرابعة التي سيتوقف عندها من يحاول قراءة المشهد السياسي البحريني، الذي سيكتشف دون جهد يذكر تقدم العناصر الانتهازية التي يحلو لها صب الزيت على نيران الأوضاع المتأزمة الصفوف، من أجل تأزيم الأوضاع بين المواطن وأجهزة الدولة، كي تصل الأمور إلى نقطة اللاعودة، التي تحظر على ذوي النوايا الطيبة ممارسة دورهم الإيجابي في نزع فتيل قنابل الصدامات، كي تضع مكانها عوامل تهدئة النفوس، كمقدمة ضرورية لإعادة الأمن المطلوب للخروج من مستنقع التوتر الذي تمر به البلاد. قد تبدو مسألة لجم هذه العناصر مهمة بسيطة، لكنها في حقيقتها معادلة معقدة، بحاجة إلى جهود مكثفة قادرة على الوصول إلى النتائج المرجوة.
ومن المحطة الرابعة ينتقل ذلك الناظر للشارع السياسي البحريني إلى النقطة الخامسة التي تضع أمامه ذلك التمزق الاجتماعي الذي يستمد مقومات اندلاعه، وعناصر استمراره، من بذور الطائفية المقيتة التي باتت تسيطر على سلوك المواطن البحريني، وتتحكم في العلاقات الاجتماعية، وبل وحتى الاقتصادية بين ذلك المواطن وجيرانه. تحول السلوك الطائفي الذي يحظى برعاية وتشجيع كل من له مصلحة في تأجيج الأوضاع وعدم استتباب الأمن، إلى ظاهرة، نأمل ألا تتنامى كي تشمل قطاعات المجتمع كافة، تهدد أمن المجتمع، وتقف جدار صد في وجه محاولات الخير الهادفة إلى إعادة اللحمة الوطنية للمجتمع البحريني، كخطوة أولى على طريق الوصول إلى حالة التسامح المنشودة القادر على وضع حد لكل شكل من أشكال الاحتقان الطائفي. ربما يتوهم البعض أن تحقيق هذا الهدف لا يحتاج إلى أكثر من حملات دعاوية تحث المواطنين على التخلص من أوبئة الأمراض الطائفية التي نشرتها الأحداث الأخيرة في جسد المجتمع البحريني، لكن الأمر أكثر تعقيداً من ذلك، وبحاجة إلى جهود مكثفة، ولفترة طويلة، قادرة على اجتثاث تلك الطفيليات من جسد المجتمع البحريني، وهذا ما يجعل من ذلك مهمة في غاية الصعوبة، تقتضيها متطلبات المرحلة الراهنة.
وفي نهاية ذلك الشارع البحريني يكتشف الناظر إليه النقطة الخامسة ذات البعد الاقتصادي، وهي النتيجة الطبيعية والمنطقية لتردي الأوضاع الاقتصادية التي أفرزتها الأحداث المريرة التي عرفتها البحرين. يرى من يريد أن يستشف احتمالات المستقبل قنبلة اقتصادية موقوتة قابلة للانفجار في أية لحظة. فليس هناك أي شك في أن تولد تلك الأحداث معضلة اقتصادية معقدة مصدرها إلغاء، أو تأجيل مجموعة من الفعاليات الاقتصادية المهمة التي كانت تحتضنها البحرين، ليست «الفورميلا 1»، ومعرض ومؤتمر «مفتيك» سوى الأكثر بروزاً في قائمتها. وإذا كانت الحلول الاجتماعية بحاجة إلى الجهود المحلية وحدها، فإن معالجة القضايا الاقتصادية، وفي ظل الظروف التي ولدتها ثورة الاتصالات والمعلومات، وبفضل الطبيعة الخدماتية التي يرتكز عليها الاقتصاد البحريني، لا يمكن ان تكون مجدية بعيداً عن العوامل الأجنبية، التي أرهبتها الأحداث الأخيرة في البحرين وأرغمتها على مغادرة البحرين بشكل جماعي، كأفراد، والهروب من السوق البحرينية كرأسمال استثماري. إن إقناع الرأسمال الأجنبي البشري الذي «طردته» تلك الأحداث، مسألة تقترب من حالة الاستحالة،
وإن كان لنا أن نعمل من أجل تغيير تلك الصورة القاتمة، فليس أمامنا من خيار أمام المواطن والدولة، على حد سواء، سوى محاولة قراءة الظواهر بذهنية مسئولة تضع نصب عينيها مصلحة البلاد قبل أي شيء آخر، وتتحاشى أن تضيع من بين يديها فرص أخرى جديدة، ستكون تأثيراتها في حال ضياعها أسوأ من تلك التي أضيعت خلال الأحداث الأخيرة، وسيجد الجميع أنفسهم يندبون حظهم بعد أن فات وقت الندب أو حتى مجرد الندم
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 3136 - الجمعة 08 أبريل 2011م الموافق 05 جمادى الأولى 1432هـ