يذكر المختصون النفسيون أن للغباء والتبلد أسباباً عدة، منها الوراثة، والبيئة، وسوء التغذية، والمرض الجسماني والعقلي، وغيرها ما هو معدد في كتب علماء النفس، ولكن تلك الأسباب على أهميتها ليست إلا أسباباً ثانوية...
فالوراثة مثلاً ليست سبباً أصيلاً في الغباء، بدليل أننا نرى أبناء الأسرة الواحدة يختلفون أحياناً في درجة ذكائهم، كما أن البيئة وحدها ليست سبباً رئيساً في وجود التبلد؛ لأننا نرى أبناء الحارة الواحدة منهم من يصل إلى درجة العبقرية، ومنهم من تلازمه البلاهة، وسوء التغذية وإن كان له دور في الـتكوين العقلي للإنسان إلا أن تأثيره نسبي؛ بدليل أننا نرى في أحايين كثيرة نابغين من بين البؤساء والمعدومين.
أما السبب الأول والرئيسي لإيجاد الغباء والتبلد فهو الاستبداد والطغيان والبطش، وقد تأملت في التاريخ قديمه وحديثه، وفي حياة الأمم على اختلاف ألوانها وأعراقها وديانتها وفقرها وغناها فوجدت أنه ما وجد مناخ الحرية والعدل والمساواة إلا ورافق ذلك نبوغ وذكاء وابتكار وإبداع بين من عمهم هذا المناخ التحرري، وما وجد مناخ الاستبداد والطغيان والبطش إلا ولازمه تبلد وجمود وتخلف وعقم فكري وقلة في الإنتاج.
فالطفل الصغير قد يجد الاستبداد من أبيه أو أمه أو مربيته فيغلبه الخوف والوجل، ويمنعه ذلك من التعبير عما بنفسه بالكلام أو بالحركات أو بالانفعالات فينطوي على نفسه ويخفي شعوره وأحاسيسه فيصاب بالتبلد.
والتلميذ في المدرسة قد يسمع السؤال من معلمه المستبد القاسي فيمتنع عن المشاركة في الإجابة خشية أن يخطئ فيعاقبه، بل ربما أعرض عن مجرد التفكير في البحث عن الإجابة بسبب الخوف فيتولد عنده التبلد.
والطالب في الجامعة قد يجد أستاذه مستبداً لا يعجبه غير رأيه فلا يكتب إلا ما يرضيه وإن خالف فكره خشية أن ينقص درجاته.
والباحث قد يخشى على درجته العلمية التي يسعى للحصول عليها، فيعمل على أن يرضي أذواق من حوله بغض النظر عن موافقة ذلك للحقيقة العلمية أو غير العلمية فيصاب بالتبلد.
والمدرس يخشى من المراقبين عليه والموجهين له فيتقيد بالكتاب الذي يدرسه تقيداً أعمى، ولا يسمح لنفسه بإبداء الرأي فيما يدرسه لتلاميذه فيصير أداؤه تقليدياً، ويصاب بالتبلد.
وإمام المسجد قد يرى المخبرين الأمنيين يتناثرون في حلقة علمه أو خطبته فيتلعثم ولا يكاد يُبين عما في نفسه، ويخشى إن سئل سؤالاً فقهياً أن يجيب عليه إجابة شافية؛ لربما كانت الإجابة لا ترضي ولاة الأمر فيغضبون عليه؛ فيصاب فكره مع مرور الأيام بالتبلد.
والكاتب أو المفكر قد يجد الأجهزة الأمنية تراقب تحركاته وسكناته فيخشى من التعبير عما يجيش في نفسه ويُؤثر السلامة؛ فتضيع أفكاره أو تبقى حبيسة في نفسه فتموت بموته.
والعالم قد يجد القيود محاطة به فلا يشغل نفسه بعظائم الأمور إيثاراً للسلامة، ومع مرور الزمن يجد نفسه يدور في حلقة مفرغة، ثم يصاب بالتبلد، ولا نجد في أبحاثه مهما كثرت شيئاً مفيداً.
بل إن الرجل قد يصل إلى درجة الوزارة في عالم ملبد بغيوم الاستبداد، فلا يعرف ما ينبغي فعله وما لا ينبغي، وربما كان صاحب أفكار صائبة ورشيدة، ولكنه يخشى من تطبيقها في عمله؛ لأنه لا يعلم هل توافق هوى من أوصله إلى الوزارة أو لا توافقه، فيظل مضطرباً، وقد يجد نفسه مضطراً لكي يحافظ على كرسيه أن يتخلى عن آرائه الصائبة المستنيرة، وأن يصير مجرد تابع لواليه ينتظر منه الأوامر، فيصاب نتيجة لذلك بالتبلد.
وحاشية الحاكم قد يرون منه ما يضرّ بمصلحته ومصلحتهم ومصلحة البلد فلا يجرأون على نصحه خوفاً من استبداده، ويضطرون إلى مجاراته والتأمين على كل ما يصدر منه وإن كان غير صواب، وبمرور الزمن يجد هذا الحاكم نفسه يتخبط في الحكم من دون أن يجد من يساعده ويُقوّم له أمره؛ حتى يورد نفسه وشعبه المهالك.
وبذلك تتحول ظاهرة التبلد والغباء من مجرد ظاهرة فردية إلى ظاهرة عامة تشمل كل أفراد المجتمع على اختلاف طبقاته؛ فتتراجع الدول إلى الوراء، وتتخلف عن ركب الحضارة، وتصير عالة على غيرها، ولا تستطيع أن تنتج ما يكفي أدنى حاجاتها ومتطلباتها المعيشية.
والتاريخ مليء بكثير من الأمثلة لبلاد كانت في مصاف الأمم، فلما غلبها الاستبداد تراجعت وصارت في المؤخرة، فبلاد مصر والشام والعراق مثلاً كانت في مهدها أساس الحضارة البشرية التي مازلنا نرى أثرها الملموس إلى الآن، وذلك لأن تلك الشعوب كانت في البداية عبارة عن تجمعات يحكمها الأصلح والأقوى من السكان، فلما وقعت تحت نير الاحتلال تعطلت الحركة الفكرية فيها حتى وصلت إلى مرحلة الجمود.
ففي مصر والشام دخل المحتل اليوناني ثم الروماني، ومارس القهر والاستبداد لشعوبها، واستمر أكثر من 2000 سنة، ونتيجة لذلك توقفت النهضة الحضارية بها، ولم نعد نسمع خلال تلك القرون الطويلة عما كنا نسمعه من مآثر الحضارة المصرية الفرعونية التي شاهدناها من قبل، ولم نعد نسمع عن فنون الابتكار التي تميز بها السوريون وغزوا بها العالم من قبل، اللهم إلا المزارع التي كان يعمل فيها الفلاحون المصريون عمل العبيد؛ لينتجوا لروما حاجتها من القمح وسائر المزروعات، والمصانع التي ورثها الرومان عند دخول الشام؛ فأبقوا عليها وعلى عمالها لتقدم لهم ما تحتاجه أوروبا.
وفي العراق اضمحلت المشروعات التي أقامها الآشوريون بعد احتلال الفرس لها، ولم تبقَ غير الترع والسدود والمزارع التي شيّدوها ليعمل فيها العراقيون كإجراء عند الفرس المحتلين.
وللقارئ أن يتخيل ماذا كان سيحدث للبشرية من تقدم وازدهار لو نجت تلك البلاد من الاستبداد خلال تلك القرون الطويلة، وسارت في طورها الصحيح...
ولما دخل الإسلام تلك البلاد، وبسط المسلمون نفوذهم عليها، وفكت قيود مواطنيها، ورفعت عنهم الأثقال التي كانت عليهم، وتمتعوا بالحرية التي منحها لهم الإسلام، عملوا على مواصلة عملهم ومضاعفة جهدهم، وأنشأوا لنا حضارة سامية، وأنجبوا العلماء الأفذاذ الذين كان لإنتاجهم وأفكارهم وابتكاراتهم الفضل الأكبر في المدينة الحديثة التي تنعم بها البشرية الآن بشهادة كل المفكرين المنصفين.
وما حدث لتلك البلاد من تبلد وجمود بسبب الاستبداد حدث لليونان أيضاً، إذ اضمحلت الحركة الفكرية بها، تلك الحركة التي أنتجت أشهر العلماء في الفلسفة والمنطق والرياضيات والطب والهندسة والفلك، اضمحلت بسبب احتلال الرومان لها، ومحيت آثارها بعدما دفنت مؤلفات هؤلاء العلماء في المعابد والقصور، وحرم على الناس الاطلاع عليها، قبل أن يتعرف عليها المسلمون ويستخرجونها من مخابئها.
وبالطبع ما كان للمستبدين الرومان الذين أتوا على الحضارات التي سادت في بلاد مصر والشام واليونان وأفنوها أن يسمحوا بقيام حضارة ذات قدر في بلادهم (بلاد الغرب) بعد أن قضى استبدادهم على قدرات الناس العقلية وأصابوهم بالتبلد والغباء؛ بسبب مباشرة الإرهاب والبطش والجبروت عليهم، وإنما مارسوا الاستبداد على شعوبهم أيضاً، وظلت أوروبا خلال العصور الوسطى تغطُّ في سباتها، ويعمّها الجهل والظلام، ولا يخفى على أحد ما فعلته محاكم التفتيش وسلطة الكنيسة من تنكيل بالعلماء ومن حاول أن يخرج على الأساطير والخرافات التي كانوا يلقنونها للناس.
وما أن زالت سلطة الكنيسة حتى وجدنا العباقرة والمبدعين يملأون ساحات أوروبا باختراعاتهم؛ ما يعني أن الشعب الأوروبي الذي غطَّ في نومه خلال العصور الوسطى لم يكن متبلداً بسبب البيئة أو الوراثة أو غيرهما، وإنما كان متبلداً بسبب سلطة الاستبداد التي مورست عليه.
وفي العصور الحديثة عادت الشعوب التي كانت من قبل متأصلة في الحضارة (الشعوب العربية وعلى رأسها مصر والشام والعراق واليمن) إلى جمودها وتبلدها مرة أخرى، وتأخرت عن ركب التقدم والحضارة بالقياس إلى البلاد الأوروبية، ولم يكن تبلدها وتجمدها لعوامل البيئة أو الوراثة، وإنما بسبب الاستبداد الذي يمارس عليها، ويوم أن تجد شعوب تلك البلاد جو الحرية الذي أتيح لها من قبل ستعود لا محالة إلى مقدمة الأمم، وفي زمن قياسي إن شاء الله
إقرأ أيضا لـ "أحمد عبدالحميد عبدالحق"العدد 3135 - الخميس 07 أبريل 2011م الموافق 04 جمادى الأولى 1432هـ