في غرَّة الشهر الخامس من العام المنصرف أعلنت دولة الكويت أنها فكَّكت «شبكة تجسس تعمل لمصلحة الحرس الثوري الإيراني، وتهدف إلى رصد المنشآت الحيوية والعسكرية الكويتية، ومواقع وجود القوات الأميركية في البلاد» كان الشعور حينها حِيال ذلك الإعلان الكويتي أن الأمر لا يزيد عن مرتبة اتهام قابلة للدَّحض القانوني من هيئة الدفاع ومن ثم إنهاء المسألة وكأن شيئاً لم يكن.
لكن وقبل تسعة أيام من الآن قال القضاء الكويتي كلمته في القضية بشكل جلي، ولم يعُد الأمر اتهاماً فقط كما كنا نعتقد. فقد حَكَمَت محكمة كويتية بإعدام ثلاثة من المتهمين بينهم مواطن كويتي، إضافة إلى متهَمَيْن إيرانِيَّيْن آخرَيْن. في حين حَكَمَت بالمؤبَّد على متهم سوري وآخر سعودي الجنسية بالسجن المؤبد، وتبرئة فتاة هي إحدى بنات أحد الإيرانِيَّيْن الصادر بحقهما حكم الإعدام حسب رأي محكمة الجنايات بالكويت. وهو ما يعني وصول الأمر إلى مستوى عالٍ من الجِدِّيّة واليقين القانوني.
ما يُقال اليوم بشأن تلك الأحكام وتلك القضية لهو أمر كبير لحفظ الحقوق الأمنية والاستراتيجية لدولة الكويت. أقول ذلك وأنا مُدرِكٌ جداً للسياسات الكويتية حيال الخارج سواء الإقليمية منها أو الدولية. ومُدرِكٌ أيضاً لحجم المرونة الكويتية البيِّنَة في التعامل مع القضايا السياسية والاقتصادية والأمنية التي واجهتها الكويت وبالتحديد مع الجار الإيراني، وهو ما يجعل المرء يتساءل ويستغرب من التعامل الإيراني آنف الذكر مع دولة الكويت.
لقد كانت السياسة الكويتية وطيلة الفترة الماضية تسير بهدوء وبدبلوماسية رشيقة وناعمة جداً وبعيدة عن التأزيم مع إيران. ففيما خصَّ حقل الدرّة النفطي (والذي تسمّيه إيران بـ آراش) لم تخلق الكويت أزمة سياسية مع طهران. وحتى عندما دأبت الأخيرة على مد خطوط «ايبك» بالتعارض مع خطوط الكويت «شل» وقبل أي تسوية نهائية لمسألة الجرف القاري بينهما لم يُصعّد الأخوة في الكويت من الموقف، بل قام سمو الشيخ ناصر المحمد الصباح بزيارة طهران وعرض الموقف هناك وبشكل رسمي وبعيداً عن تهويلات الإعلام.
وكلنا يتذكر أنه وعندما اخترقت ثلاثة زوارق عسكرية إيرانية قبل ثلاثة عشر شهراً من الآن المياه الإقليمية الكويتية ووصلوا إلى حقل الدرّة الكويتي رقم (11) واستقروا في محيطه قبل أن يُغادروه على عجل بعد رصدهم من قِبَل رادارات إدارة خفر السواحل الكويتية، تعاملت الكويت بأعلى درجات الانضباط والدبلوماسية والمهنية لإنهاء الموضوع وإيقاف تداعياته بسرعة، ولم تلجأ إلى خلق أزمة سياسية مع الإيرانيين وانطوى الأمر على هذا المستوى.
وفي أتون أزمات الخليج الموسمية بين دوله وإيران وقَّع الكويتيون مع الإيرانيين في أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1999 اتفاقية للتعاون التجاري للمناطق الحرة لتسهيل نقل البضائع عن طريق البحر. وأخرى في يناير/ كانون الثاني من العام 2000 للغرض التجاري أيضاً، وبعد عام اتفاقية تعاون ثنائي في مجال انتقال الأيدي العاملة والشئون الاجتماعية والتدريب الحرفي والمهني. وفي يناير 2008 اتفاقية تجنب الازدواج الضريبي، والأهم من كلّ ذلك هو توقيعهما لبروتوكول أوَّلي في مارس/ آذار 2005 لتصدير الغاز الطبيعي من إيران إلى الكويت بكميات تصل إلى 300 مليون متر مكعب من الغاز يومياً ولمدة 25 عاماً وبقيمة سبعة مليارات دولار.
وحتى عندما كان الإقليم يعِجّ بالصراع المكتوم تارة والعلني تارة أخرى ما بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران وقَّعت الكويت في سبتمبر/ أيلول من العام 2002 مذكرة للتفاهم الدفاعي مع طهران هي الأولى بين دولة خليجية وإيران، وكانت تقضي هذه المذكرة بأن يحضر مراقبون من الجانبين المناورات العسكرية التي يجريها كل بلد (الكويت/ إيران) وتبادل الخبرات والمعلومات وكذلك الدورات التعليمية في المجال الدفاعي. كما أن الكويت لم تأخذ طريقاً غير الدعوة للحوار والدبلوماسية لمعالجة برنامج طهران النووي منذ اتفاق سعد آباد ولغاية اليوم.
هنا وأمام هذا العرض التفصيلي يلزم الحديث عن أمرين اثنين. الأول هو أن حُسن النوايا الكويتية المُترجَمَة على شكل مبادرات سياسية إيجابية في قِبال السلوك الإيراني المندفع وفق نمط استخباراتي مريب لا ينسجمان بالمرَّة من حيث إيجابيّة الأول وسلبية الثاني. الأمر الآخر هو أن دول الخليج العربي وشعوب هذه الدول تعارض ولا تحبذ أبداً أن ينشب صراع مسلَّح بين إيران والغرب لكنها أيضاً لا تقبل وبأيّ شكل من الأشكال أن تقوم إيران بممارسات كالتي أحدثتها في الكويت مؤخراً، لأن أصل الجيرة هي أن يأمنك جارك وتأمنه أنت كأضعف الالتزامات البينية التي تنتهجها الدول مع بعضها البعض.
القضية التي يجب أن يُدركها الجميع وبعيداً عن أيّ اعتبار آخر هي أنه وعندما تكون هناك مؤامرة (كما يحب الإيرانيون أن يُسمّونها) سنعترض على تلك المؤامرة المُدبّرة حتماً. وعندما تتعرض إيران لعدوان خارجي سنعترض عليه أيضاً لأن لا أحد سيرضاه ساسة كانوا أم مسوسين، لكن نصف الحقيقة الأخرى أيضاً هي أن تعرّض دولة خليجية (في حالة الكويت أو غيرها) لاختراق أمني أو ما شابه لن يكون إلاّ محل إدانة واعتراض من كل خليجي؛ لأن الموقف المُجَاز في حالة المؤامرة أو في حالة الاعتداء سيكون مُجازاً هو الآخر في حالات الاختراق الأمني
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3134 - الأربعاء 06 أبريل 2011م الموافق 03 جمادى الأولى 1432هـ