كثيرةٌ هي الأمور التي لا يتطلّب وضوحها تفسيرا ولا تأويل. فهي قد أكملت مشروطية الانتقال من المحسوس إلى المُجرّد، ليُصبح الإمساك بلفظها ومدلولها أقّل كُلَفِ التفكير وقتا وجهدا. وهو حال العديد من ملفات عالمنا العربي.
قبل عام ويومين بالضبط كتبتُ في صحيفة «الوسط» أن «المعارضة (اللبنانية) أصابت نصف المكاسب عندما حدّدت سقفها سلفا بأن ما جرى (في 7 مايو/ أيار) لن يتم تثميره على طاولة الحوار. ثم تآكل ذلك النصف بعد أن اقتصر تحركها على تفتيت مفاعيل الحكومة ومناشطها السياسية والحزبية والأمنية في الفضاء العام».
اليوم أجدُني أعضّ على ذلك بالنواجذ وأزيْد أن النصف المتآكل في عدم تحويل 7 مايو إلى قيمة أكثر حسما مما جرى قد تحوّل اليوم إلى رقم آحاد يترنّح على رغم مآلات اتفاق الدوحة الذي أتى بالثلث المعطّل والرئيس التوافقي وتعديل دوائر الانتخاب.
اليوم وقُبيل الانتخابات النيابية لم يعد القول بغير ذلك مُجديا لا في التبرير ولا في قراءة الأوضاع بوطنية زائدة، يتمّ استرجاع نقيضها من براثنها. لأن الخصومة باتت أكبر من تحوّلها إلى سياسية، وباتت تتجاوز فضاء الإقليم وحماية البلد.
كان قبول المعارضة باستمرار حكومة منقوصة (طائفيا) تخالف ميثاقيّة الدستور اللبناني أمرا مهينا. وكان التحسّر على أحداث الجامعة والهجوم على أنصار التيار الوطني الحرّ في كلّية الآداب شكلا جديدا من أشكال الصّبر الذي يلجأ إليه الضعفاء.
وكانت استدارة الظهر من قِبَل المعارضة لأحداث عرمون، والتدخّل في التعيينات الأمنية اللبنانية من قِبَل الأميركي قبل اللبناني (حسن اللقس مثالا) وضحايا الاعتصام وسط بيروت والتصدي لتظاهرة نقابة العُمّال أمرا يدعو للاستغراب.
وكان سكوت المعارضة عن تدويل المولاة لحادثة عِين عَلَق (وغيرها) وضرب الطالبات (المعارضة) في الجامعة ونزعِهنّ أغطية شعورِهِن وإطلاق النار على بيوت جنوبية بحجّة مخالفة اشتراطات البناء أمر يدعو للأسف.
إن تحرّك المعارضة في السابع من مايو كان واجبا وليس حقا. لكنه ومع الأسف لم يتحوّل ذلك التحرّك سوى إلى صدّ عن بُعد وتفكيك جزئي لمشهد سياسي بائس بات علاجه مرتبط بمستقبل بلد محوري في المنطقة.
ليس التصدي لأعمال كتلك التي قام بها فريق السلطة داخلٌ في تجريم جنائي أو منقصة وطنية. إنها معالجات ضرورة تحتاجها الدول والأنظمة والجماعات السياسية عندما تُقرّر العيش في نخاع إمبريالي توسّعي.
لم يقبل أحد على مرّ التاريخ أن يعتاش أحد على أكتاف مستعمر مهما تسربلت سياساته بالشعارات والآمال. فقَضَى شارل ديجول على حكومة فيليب بيتان عندما مالأ الأخير المستعمِر النازي وشكّل حكومة عميلة رغم أنه كان يُلقّب بمنتصر فيردان عندما هَزَم جيش غليوم الثاني في معركة دامت أحد عشر شهرا.
وقضت مجموعات الخوزين الهولندية المقاوِمة على فلول هانس روتر، وحوّلت أبلدوورن إلى مسرح عمليات دامية ضد عملاء النازية. هذا سلوك مُقوّم لا يُمكن تحريف مساره بمتطلبات تقضي على أصل شرعيته.
لم يُرِد أحد أن تتحوّل الأمور إلى قتال بَيْنِي في لبنان، ولكن الظروف جَرَت أن تتمثّل الأمور بما حدث في 7 من مايو على رغم محدوديتها التي لم تُؤدِّ إلى نتائج حاسمة تُنهي مجون سياسي فج.
بالضبط مثلما جرى في العالم الجديد. فالاتحاديون بزعامة إبرهام لنكولن لم يكونوا يريدون حربا مع الولايات المتحدة الجنوبية بزعامة جيفرسون ديفيس. لكنهم قاتلوه (على رغم أنه أميركي) عندما اختار إغراق المركب، وأسالوا معه دما في معارك فورت سومتر وأنتيتام وكانسلورفيل وفيكزبورغ. إنها أكلاف يجب أن يدفعها كل من يريد أن يرمي سهما باتجاه وطن.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2449 - الأربعاء 20 مايو 2009م الموافق 25 جمادى الأولى 1430هـ