من الناحية التقنية كان بإمكان الرئيس السوري بشار الأسد تجنب إلقاء خطابه الموعود في قاعة مجلس الشعب. فالتصفيق والهتافات والضجيج الفولكلوري أساء إلى المشهد وأعطى صورة سلبية لا تليق عن هيكل النظام وتراتبه ومنظومة علاقاته بين مؤسسة الرئاسة والسلطة التشريعية. وساهمت هذه الفوضى المنظمة في تقطيع أوصال الخطاب وأدت إلى إخراج أفكاره بطريقة مشوشة، الأمر الذي منع وصولها بوضوح إلى المشاهدين والمستمعين.
غموض أفكار الخطاب، بسبب صراخ أعضاء مجلس الشعب وتدخلاتهم المنفعلة بين فقرة وأخرى، أعطى الانطباع لدى معظم المراقبين بأن السلطة في سورية قررت اللجوء إلى الحل الأمني والابتعاد عن لغة الإصلاح والمصالحة واحتواء مضاعفات العنف الذي شهدته المدن والمحافظات خلال الأسبوع الماضي. تقنياً كان بإمكان الرئيس السوري الذهاب إلى قاعة مقفلة أو على الأقل خالية من الرفاق والأنصار والمريدين والتوجه مباشرة إلى الشعب من دون توسط حتى تأتي أفكار الخطاب متناسقة في انسيابها اللغوي ومتناسبة مع الظروف الدولية والإقليمية وحالات القلق التي يعيشها الناس.
هذا من الناحية التقنية. أما من الجانب السياسي جاء الخطاب الموعود أقل من التوقعات، ما أدى إلى صدور ردود فعل أعربت عن خيبة أمل حتى من الأطراف القريبة أو المتفهمة للصعوبات التي تمر بها سورية. فالتعليقات المختلفة في مشاربها ومنابتها أجمعت على أن المطلوب أكثر من المعروض، باعتبار الأزمة ليست بسيطة وعادية إذ تجمعت روافدها من مصادر متعددة بعضها موغل في قدمه (قانون الطوارئ) وبعضها نتاج أخطاء تراكمت حديثاً وتعانقت مع موروثات تجاوزها الزمن (حكم الحزب الواحد، إعلام الرأي الواحد).
تقطع أفكار الخطاب دفع أجهزة النظام وإعلامه إلى تقديم توضيحات توجز الخطوات المزمع اتخاذها خلال الأسابيع المقبلة. وجاءت التوضيحات اللاحقة لتبريد الأجواء الساخنة وتخفيف الاحتقان الداخلي سواء بالإفراج عن بعض المعتقلين وسواء بتحديد مواعيد وآليات لتنفيذ الوعود التي شملت تعديل مواد دستورية وإعادة النظر بموضوع تجنيس الأكراد في القامشلي والشمال السوري.
الآن تبدو الأمور متجهة نحو الاستقرار القلق المفتوح على احتجاجات غير منظورة، لكون فئات الناس أصبحت في حال انتظار لمعرفة مدى جدية السلطة في تطبيق الإصلاحات وتعديل قوانين تعود إلى مطلع ستينات القرن الماضي. فالمشكلات التي يطالب الناس بمعالجتها ليست جديدة ومستحدثة ولا ترتبط بالخارج وهي نتاج تأزم الداخل ولم تصنعها المؤامرات وغير مستوردة من الجوار القريب أو البعيد.
قانون الطورائ دخل سن الشيخوخة، كذلك قانون الإحصاء والتجنيس، أو قانون الإعلام والصحافة، أو قانون الأحزاب وحكم الحزب الواحد (المادة الثامنة من الدستور)، أو قانون حق الاعتراض والتظاهر السلمي وغيرها من مشكلات تعود عقوداً إلى الوراء. بعض القوانين صدر بعد انقلاب حزب البعث ومصادرته للسلطة، والبعض صدر قبل حرب يونيو/ حزيران 1967 أو بعدها، والبعض صدر قبل حرب أكتوبر/ تشرين 1973 أو بعدها. المشكلات التي يعاني منها الشعب السوري لها صلة بتقييد الحريات وهي في معظمها قديمة ومتهالكة وفقدت وظائفها وصلاحياتها ولم تعد صالحة للعمل بها بعد نصف قرن على صوغها وتطبيقها.
المسألة إذاً داخلية أساساً وهي تفاقمت زمنياً وتراكمت بحكم تخثر آليات الأجهزة البيروقراطية التي تشرف على مراقبة قنوات تمريرها ميدانياً على الأرض. الموضوع في أصوله الأولى ومواده الأولية هي نتاج أزمة علاقة السلطة بالناس وهي أزمة تأسست قواعدها الايديولوجية في العام 1962 وأخذت بالتشعب والتشابك من دون أن يتم مراجعتها حتى تكون صالحة للاستخدام في العام 2011. وهذه الفجوة تعتبر عادية وطبيعية في مجرى تطور تجارب الأمم ومسالك الدول، وهي يمكن أن تحصل في كل البلدان التي تغيب فيها النخبة عن الوعي وتبتعد عن حاجات الناس ومتطلباتهم العفوية.
السلطة التي لا تتطور تصبح بمنطق التاريخ خارج آليات الزمن. والسلطة التي تتعامل مع الناس بوصفهم مجرد أحجار دمى أو قوى فاقدة للحياة تتورط منطقياً في مواجهات يمكن تجنبها والاستغناء عنها. وهذا الأمر يحصل دائماً في الدول التي تعاني من صدأ الأفكار وتصدع المؤسسات ما يجعلها تتأخر في الاستجابة للمعطيات التي تتوالد طبيعياً بحكم التطور الموضوعي لكل الشعوب والأمم. عدم القدرة على التكيف مع تقدم منظومة الحياة هو من سمات الأنظمة التي تعتقد أن القوانين ثابتة لا تتغير مهما كانت المتحولات الداخلية والمحيطة بها. وهذا النوع من التفكير الجامد يعتبر أسوأ وصفة يمكن تقديمها للتعامل مع مشكلات مزمنة أخذت تتفاقم أعراضها بحكم التقادم الزمني وعدم جاهزيتها للرد على احتجاجات هي نتاج الحاضر.
الأنظمة التي لا تتطور هي تلك التي تعتقد أن الشعوب جامدة ولا تتغير والأمم لا تتقدم والمجتمعات عقيمة لا تتوالد. وهذا النوع من القناعة اليقينية يخالف نواميس الطبيعة التي إذا قطعت عنها مداخل ومخارج التنفيس يحصل في داخلها الاحتقان وتنفجر كما هو حال جماهيرية القذافي.
التطور هو قاعدة مطلقة لكل الشعوب وهو يخضع لمعايير نسبية بين بلد وآخر، لكنها في النهاية لا تخرج عن القانون العام والمشترك لكل الأمم والدول. الدولة تتطور كذلك المجتمع. هذه سنة الحياة ومن دونها ينعدم التدافع ويتغلب الهدوء وتنتصر السكينة ويسيطر الجمود وينهار العمران وتغيب الحضارة عن مسرح التاريخ.
هذه المبادئ البدائية العامة تدركها الكثير من الأنظمة لكونها تعتبر من الأفكار التي استهلكت لكثرة تكرارها واجترارها منذ أيام مونتسكيو وروسو. لكن بعض الأنظمة يعمل ضدها على رغم علمه بها، ويذهب نحو اتهام الخارج لتعليق الأخطاء على حباله حتى لو كان هذا «الخارج» يفضل الاستقرار ويقدم الحماية والضمانات ويتخوف من التغيير أو الفوضى.
كان بإمكان الرئيس الأسد أن يدلي بخطابه المنتظر من الأستديو مستخدماً الكاميرا للظهور مباشرة أمام الناس بالصوت والصورة ومن دون حاجة لتوسط قاعة مجلس الشعب وما سادها من هرج ومرج قطع أوصال الأفكار وساهم في التشويش عليها ووصولها إلى الشعب غامضة وغير واضحة في مواعيدها وآلياتها.
لاشك أن الخارج موجود، والمؤامرة هي جزء من فن السياسة، والتدخل أمر لا يمكن استبعاده في زمن الفضائيات وعصر «العولمة». فهذه العناصر يصعب إنكارها وتجاهلها في الحاضر والماضي والمستقبل، لكن الأساس في عنوان الموضوع لا يمكن تجاوزه داخلياً وخارجياً لأنه يتصل مباشرة بمبدأ التطور الطبيعي للحياة وحق الناس في التغيير بما يتناسب مع درجة التقدم.
الملاحق التوضيحية التي اضطرت السلطة أن تشرحها للناس بعد انتهاء الرئيس الأسد من إلقاء خطابه، وما نتج عنه من غموض دفع أصدقاء سورية إلى الإعراب عن صدمتهم وخيبة أملهم، تؤكد أن الأجهزة أدركت الخطأ وحاولت استدراكه بعد تلاشي الأفكار وعدم وصولها للشارع الذي كان يترقب الكثير من الإجراءات والوعود. الآن وبعد أن حصل التشويش بات على الرئيس السوري أن يعد العدة لإلقاء خطاب آخر يوضح ما أراد قوله ويقول ما يحتاجه الناس من إجراءات تلبي ثغرات وعثرات تراكمت بفعل التقادم الزمني منذ ستينات القرن الماضي
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 3130 - الجمعة 01 أبريل 2011م الموافق 27 ربيع الثاني 1432هـ
شكر خاص للكاتب ...
شكر خاص للكاتب المبدع على التخيل السياسي للمواقف العربية المخجلة البعيدة عن خارطة طريق الزمن التي ينشدها شعوبها...
أبوجعفر
أفمن هذا الخطاب تعجبون؟ و تضحكون ولا تبكون؟
لا أدري بما أعلّق يا أستاذ وليد؟!!
فعلاً ... شر البلية ما يضحك!!