هناك جملة من العوامل ساهمت في غياب الثقة وفقدانها في ساحتنا العربية وعلى مستوياتها كلها تقريبا، نذكر منها:
الأحادية: التي تولد عنها ولايزال الإقصاء والإلغاء والتهميش والتضييق والتعتيم والتقزيم والتغييب لكل رأي مخالف وفكر منافس، بدل التعدد الإيجابي والتنوع الفعال واحترام الرأي الآخر والتعايش والاستماع إلى وجهات النظر المختلفة.
الاستبداد: حيث في ظله تتولد كل جراثيم التلاشي، وتنقلب المفاهيم وتختلط الموازين وتضيق مساحة الحريات ويحجر على الآراء وتكمم الأفواه وتختنق أنفاس كل المعارضين وأصحاب الآراء الحرة، مما يدفعهم إلى اللجوء إلى الطرق الكهفية والظلية والسرية في التعبير والحفاظ على الوجود والمعارضة من تحت الأرض، الأمر الذي يهيئ الأجواء ويساعد على التنامي غير الطبيعي للأفكار المنحرفة التي تنشأ في الظلام كردود أفعال، الأمر الذي أدى ويؤدي إلى كوارث جنت على بعض هذه الأقطار الويلات.
فكلما ضاقت مساحة الحريات وخيم الاستبداد، كلما ظهرت وانتشرت هذه الظواهر المرضية وعمت وأعطيت لها الصدقية، وكلما زال شبح الاستبداد واتسعت مساحات الرأي، كلما غابت ورفعت الأغطية عنها وسقطت مبرراتها.
فالاستبداد أصل كل الشرور ومبرر كل الانحرافات، وقد صدق الكواكبي لما قال: «الاستبداد لو كان رجلا شريرا يحسب وينسب لقال: أنا الشر وأبي الظلم وأمي الإساءة وأخي الغدر وأختي المسكنة وعمي الضر وخالي الذل وابني الفقر وبنتي البطالة وعشرتي الجهالة».
الشك المتبادل: وذلك بسوء الظن وعدم الاطمئنان للآخر، واعتماد النظرات والأحكام المسبقة، وقلب القاعدة التي تقول: «المتهم بريء حتى تثبت إدانته»، فتصبح في أجواء التشكيك وموجات سوء الظن: «البريء متهم ومدان وإن ثبتت براءته»، هذا إن ثبتت وقل أن تثبت، وهي أمور مدمرة للثقة وقاطعة لأواصر التعايش والوفاق.
الاستعلاء والتكبر: فالثقة والاستعلاء لا يلتقيان، لأن أصل الكبر والاستعلاء هو غمط الحق وبطر الناس كما عرفه النبي (ص)، وغمط الحق برفضه ورده وعدم الانصياع والرضوخ له وإن كان أبلجا، وبطر الناس احتقارهم والازدراء بهم، ومن ثم الاستهانة وعدم الاعتبار لكل ما يصدر عنهم من آراء ومواقف وأفكار، فأين يكون محل الثقة من الإعراب إذا انتشرت مظاهر غمط الحق وبطر الناس.
اتباع الهوى وحب الزعامة: وهما من الآفات الدفينة التي ما إن تظهر في مجتمع وتنتشر فيه، إلا وتفكك أوصاله وتهد كيانه وتجعله عرضة للتآكل الداخلي إلى أن يؤدي به إلى الدمار التام.
فاتباع الأهواء والانقياد لها عوض الانصياع للحق والمنطق، وحب الزعامة والتسلط ولو على حساب مصالح الناس وحرياتهم وعيشهم الطبيعي، من أعظم عوامل القضاء على الثقة وهدم كيانها.
سوء التسيير: الذي أدى ويؤدي إلى إيجاد الطبقية في المجتمع، ويساعد على تكريس الفوارق الاجتماعية الكبيرة بين أبناء المجتمع الواحد، واعتماد مبدأ الانتقائية والولاء والمحسوبية في الاستفادة من المال العام، وجعله كلأ مباحا للبعض وحبسه عن البعض الآخر، مما أنتج وأثمر الضجر والنقم العام وتنمية وتفاقم روح الحقد والانتقام وفقدان الثقة على المستوى الشعبي، كما أنه أدى إلى الإفلاس والتقهقر والانحدار والتخلف على المستوى الرسمي وساهم مساهمة فعالة في القضاء على الثقة وقطع حبالها المهترئة أصلا.
المزايدات وتصفية الحسابات: ومما ساهم في غياب الثقة كذلك رواج سوق المزايدات سواء بالشرعيات المختلفة الثورية والعائلية والطائفية والمذهبية، أو بمصالح الشعب وهويته وثوابته، وتصفية الحسابات التاريخية والسياسية على حساب استقرار البلد وهموم الشعوب وآلامها.
غياب تقاليد ديمقراطية حقيقية: فالتداول على السلطة والمعارضة الإيجابية والفعالة والتفريق بين السلطة كأشخاص ومشاريع وبين الدولة كمؤسسات وكيان ومظاهر سيادة، كذلك نزاهة العمليات الانتخابية والقبول بنتائجها، واحترام الحريات وحقوق الإنسان والتنافس السلمي الديمقراطي الحر على السلطة، والإذعان لاختيار الشعب وعدم التحجير على الآراء والالتزام بالشورى والديمقراطية قناعات وتطبيقا وممارسة، والمساهمة الفعلية والمستمرة في تنمية الأوطان وتطويرها وازدهارها، وحرص الجميع على ذلك، إضافة إلى تثمين الإيجابي من أي وعاء جاء ورفض السلبي من أي جهة كان بأن يقال للمحسن أحسنت وإن كان ألد الخصوم السياسيين وللمسيء أسأت وإن كان أقرب الحلفاء، والحرص على سلامة المال العام والشفافية في التعامل معه، والحساسية من كل مظاهر الفساد، هذه وغيرها معظمها تقاليد غائبة أو ضعيفة الحضور في ساحتنا السياسية العربية في عمومها، مما أدى إلى تفاقم أزمة الثقة وانتشار موجات الشك والتشكيك واضطراب الواقع السياسي وتذبذبه، والسطحية في طرح الكثير من القضايا المصيرية وتهجينها وإفراغها من محتواها والمزايدة بها، وتغليب منطق تصفية الحسابات وإلغاء الآخر واستئصاله، كما هو ملاحظ في بيئتنا العربية للأسف الشديد
إقرأ أيضا لـ "جمال زواري أحمد"العدد 3129 - الخميس 31 مارس 2011م الموافق 26 ربيع الثاني 1432هـ