وصلت الأخبار: لقد جرى تخفيض وضع صدقيّة الصحافة الإسرائيلية الآن إلى «حرة جزئيا» من قبل بيت الحرية، المنظمة المكرّسة لتشجيع الديمقراطية والحريات المدنية حول العالم. إنه تذكير محبِط بأننا لا نحصل بالضرورة على منظور واضح للعالم الذي نعيش فيه. ولكنها فرصة كذلك. قد نستطيع استخدام هذه الأخبار كدافع للابتعاد عن العناوين أحادية البعد وبدء رحلة محاولة فهم حياتنا وجيراننا على مستوى شخصي.
لا يتم إيصال الفهم فقط وببساطة، فلا أحد يوصله كصحيفة تلقى على عتبة دارك. الحقيقة عملية يجب السعي للحصول عليها بنشاط، متنقلين إلى ما وراء الواقع الذي يخطّه الإعلام وباتجاه المعرفة التي هي أكثر تعقيدا.
شكّلت كتابات ادوارد سعيد حجر الأساس لخطواتي الأولى في هذه العملية. قد تكون تلك خطوات متواضعة قمت بها، ولكنها شكلت بداية أمر أكثر عمقا وسبيلا للتثقيف الذاتي.
هذه مسيرة أقطعها منذ مدة طويلة الآن، أخذتني عبر معظم العالم العربي، إلى دول أستطيع دخولها بجواز سفر واحد، أميركي، وفقط إذا استطعت إخفاء جواز السفر الآخر، الإسرائيلي. وضعتني وجها لوجه مع لاجئين فلسطينيين تكلموا عن رغبتهم بالعودة إلى بيوت عائلاتهم في يافا، على مرمى حجر من بيتي في تل أبيب. وأتت بي هذه المسيرة إلى شريط وثائقي مثير عنوانه «تاريخ لاجئ».
يستهدف المسلسل المكون من ست حلقات، والذي يجري بثه على قناة الجزيرة الوثائقية، جمهورا فلسطينيا من المشاهدين حتى يكشف القضايا التي يواجهها الفلسطينيون في كل أنحاء العالم، وليطلق شرارة الحوار الداخلي.
يأمل الذين أعدّوا الفيلم كذلك أنه سيعمل على تحفيز الشعب الفلسطيني على الوحدة والعمل معا لإيجاد الحلول. شاهدته مؤخرا على قرص DVD بكامل ساعاته الثمانية، بهدف تحقيق فهم أفضل للقضايا التي تواجه الفلسطينيين، وبالتالي المنطقة بأسرها. ولكن كانت هناك نقطة، وضعني فيها الشريط وجها لوجه مع شخص لم أكن أتوقع أن أواجهه: أنا.
حدث ذلك عندما كنت أشاهد الجزء الخامس وعنوانه «الحديث عن العودة». تحدثت امرأة فلسطينية شابة اسمها نادين نزحت أسرتها من عكا وتقيم الآن في سوريا، مع شخص يقابلها دون أن يظهر على الشاشة. «هل تعلم ما هي المشكلة؟» قالت نادين مفتتحة الكلام. «إنها امتلاك الفلسطينيين للقدرة على المغفرة. يملك الفلسطينيون القدرة على البدء من جديد مرة أخرى. إذا قتلت أنت كإسرائيلي أباه وأمه وعائلته بأكملها، لديه القدرة لأن يبدأ من جديد، ولكن الإسرائيلي لا يملك القدرة لأن يصدق أن بإمكان الفلسطيني أن يغفر، أو أن يبدأ من جديد».
من المؤكد أن كلمات نادين تثير تمتمات عدم الموافقة. فهناك بالتأكيد أناس على الجانبين يغفرون ولا يغفرون. ولكن يبدو لي أنها تحاول أن تلغي النزاع، وحلا محتملا لتصل إلى جوهره الإنساني الذي كثيرا ما نتجاهله فيضيع في خضمّ الكلام النظري والسياسي الفارغ: المشاعر.
لم أتوقف يوما من الأيام، عبر كل تفكيري وأسفاري وتثقيفي الذاتي، لأنظر إلى المشاعر التي تشير إليها نادين: المغفرة وعدم الخوف والثقة، التي تشكل الخطوات الحاسمة الأولية باتجاه التغلب على النزاع. ويتوجب عليّ أن أعترف أن لدي بعضا من عدم الثقة، بغض النظر عن صِغَر حجمها أو كونها غير متبلورة، وهي تؤدي إلى الخوف.
كيف أستطيع كفرد، وكيف نستطيع كأمم، أن نتغلب على عدم الثقة والخوف؟ كيف أستطيع أن أضع جانبا شكوكي المتأرجحة وأؤمن أن نادين على حق، بأن بإمكان الفلسطينيين أن يغفروا وأن يبدأوا من جديد؟
هناك منابر في “إسرائيل” تستخدم التعليم والتفاعل، وكلاهما ضروري لرعاية مشاعر الثقة والمعرفة. هناك مدارس «يدا بيد» الخاصة، وهي مدارس مشتركة يجلس فيها الطلبة العرب واليهود جنبا إلى جنب في الغرف الصفية يتعلمون العربية والعبرية. قام مشروع يافا للتصوير الذي عقد مؤخرا، وهو جهد على مستوى الجذور، بتعليم التصوير لمجموعة من المراهقين العرب والإسرائيليين يعتبرون يافا مدينتهم. وبالإضافة إلى العمل الذي يقوم به مشروع «صلحة» للسلام على مدار السنة، فهو يجمع آلاف الناس معا كل سنة في تجمّعه السنوي في «إسرائيل» لدعم قضية التعايش.
إلا أن منظمات كهذه قليلة العدد ومتباعدة. إضافة إلى ذلك فقد أصبح واضحا أننا لا نستطيع الاعتماد على الدولة لتوفير منابر للتسامح. مصير مدرسة وايزمن، المدرسة اليهودية العربية الوحيدة التي تديرها الدولة مشكوك فيه. لا نستطيع في معظم الحالات الاعتماد على الإعلام، ومن الأدلة على ذلك أن الإعلام في «إسرائيل» «حرّ جزئيا».
يتوجب على الفرد في نهاية المطاف أن يكون نشطا وأن يتخذ زمام المسئولية.
تعتبر رؤية الكائن البشري ثلاثي الأبعاد، بدلا من العنوان بالأبيض والأسود، خطوة حاسمة. تتساقط الخطوط الصلبة والأعداد الأولية بسرعة، وتبقى بدلا منها مع الناس، مع التجارب والأفكار والمشاعر. أصغِ لأصواتها وكلماتها، حتى لو لم توافق عليها، واستخدمها للنظر إلى والمشاركة مع نفسك. ففي نهاية المطاف، إذا أُريد للتسامح أن يحصل بين شعبينا، فالأمر عائد لنا نحن الناس، لأن نحقق ذلك.
* كاتبة وصحفية مستقلة مركزها تل أبيب، ظهرت مقالاتها في الجيروساليم بوست ووكالة معا الإخبارية، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 2449 - الأربعاء 20 مايو 2009م الموافق 25 جمادى الأولى 1430هـ