للقيروان مكانة عظيمة ليس في تاريخ الحضارة العربية والإسلامية فحسب بل في تاريخ الاجتماع والعمران البشري. فهذه المدينة الرمز شأنها شأن عدد من المدن العربية والإسلامية مثل بغداد ودمشق وفاس وشنقيط، كانت لها تاريخيا مساهمات نوعية في إثراء الحضارة الإنسانية مساهمة جعلتها تبوّأ مقعدا متقدما في صفوف المدن والحواضر والعواصم العالمية. ونتعرض في هذا الجزء الثاني من السلسة: القيروان عاصمة للثقافة الإسلامية إلى نموذج من أدبائها يمثل عينة على الإبداع والإضافة، إنه أبو الحسن الحصري...
فمن هو هذا المكنّى بالشاعر الضرير؟ ما هويته وكيف كان تكوينه؟
ولد سنة أبو الحسن علي الحصري القيرواني سنة 420 هجري في حيّ الفهريين بمدينة القيروان في وسط البلاد التونسية. يتّصل نسبه بعقبة بن نافع الفهري مؤسس القيروان وفاتح إفريقيا (تونس)، ويرجع البعض نسبته الحصري إلى صناعة الحصر ويقال: إلى مدينة حصر الدارسة والتي كانت قريبا من القيروان، وهو ابن أخت أبي إسحاق الحصري صاحب (زهر الآداب) المتوفى سنة 413 هجري قبل مولد أبي الحسن.
والأرجح أنه فقد بصره في طفولته ولم يولد كفيفا كما يرى صاحب معجم المؤلفين.
وقد برع في حفظ القرآن بالروايات وتعلّم العربية على شيوخ عصره. اتّصل ببعض الملوك ومدح المعتمد بن عباد بقصائد، وألف له كتاب المستحسن من الأشعار.
وفي مقتبل شبابه كانت فتنة بني هلال في القيروان سنة 449 هجري، تلك الفتنة التي شتَّتت أهل القيروان، ورحلت بعدها أسرة الحصري إلى سبتة بالمغرب، فبقي فيها زهاء عشر سنوات.
ثم تركها إلى إشبيلية ملتمسا الحظوة عند المعتمد بن عباد، ثم تركها إلى دانية ولم يبرح أن غادرها إلى سرقسطة ثم قصد ابن صمادح صاحب المرية ووجد عنده كل ترحيب وإكرام، ومكث عنده مدة ثم رحل قاصدا ابن طاهر صاحب مرسية ومدحه بقصيدة: (يا ليلُ الصبُّ متى غده أقيام الساعة موعده ولنا إليها عودة).
ولقد كانت رحلته في المغرب والأندلس طويلة وثرية حتى قيل عنه: «كان بحر براعة ورأس صناعة وزعيم جماعة، طرأ على جزيرة الأندلس منتصف الماية الخامسة، بعد خراب وطنه القيروان، والأدب يومئذ بأفقنا نافق معمور الطريق، فتهادته ملوك طوائفها تهادي الرياض النسيم، وتنافس فيه تنافس الديار بالأنس المقيم... ولمّا خلع ملوك الطوائف بأفقنا اشتملت عليه مدينة طنجة وقد ضاق ذرعه وتراجع طبعه.
ماذا ترك الحصري في خزانة الأدب العربي؟ وبم اتسمت شخصيته الأدبية؟
ترك الشاعر الضرير دواوين متنوعة لكنها لم تتجاوز الأربعة هي:
1 - ديوان مستحسن الأشعار وهو فيما قاله في المعتمد بن عباد.
2 - ديوان المعشرات وهو شعره الفنِّي الغزلي، مقطوعات كل منها في عشر أبيات.
يبتدئ كل بيت فيه بالحرف الذي يقفَّى به.
3 - ديوان مختلف المناسبات.
4 - ديوان اقتراح القريح واجتراح الجريح:
ويشتمل على 2591 بيتا في رثاء ولد له مات ولم يتم سن العاشرة، وكان إماما في مسجد ناحيته، جامعا لمعلومات يعجز عن إدراكها الكبار، وقد توفي وهو في حضنه، ووصف ذلك بقصائد تتفتت لها الأكباد. ولا يخفى على أحد صعوبة رثاء الصغار والنساء قلة الصفات فيهم وندرة مناقبهم وأعمالهم. وله أيضا القصيدة الحصرية 212 بيتا في القراءات.
وقد ذاعت شهرته كشاعر فحل، شغل الناس بشعره، ولفت أنظار طلاب العلم فتجمعوا حوله، وتتلمذوا على يده ونشروا أدبه في الأندلس. ومن أهمّ محطات رحلاته تلك التي كانت في مرسية مع أميرها ابن طاهر، حيث عظمت مكانته عنده ومدحه بالقصيدة التي ذاعت شهرتها وطبقت الآفاق وتنافس المغنون في تلحينها والشعراء في معارضتها، تلك الدرّة الفنية التي غنتها السيدة فيروز:
ياليلُ الصبُّ متى غده ... أقيام الساعة موعده
وكان الحصري بالرغم من إكثاره كتابة الشعر زهاء نصف قرن، وكتابته في مختلف أغراض الشعر حتى ترك أربعة دواوين، بالرغم من ذلك كله بقيت قصيدة يا ليل الصب هي الاسم الثاني لأبي الحسن الحصري وهي اللفتة السانحة التي نفحت اسمه البقاء.
والقصيدة أطول بكثير مما يعرفه القارئ العاديّ القصيدة أساسا موضوعها المدح لكن شاع وذاع منها بضعة وعشرون بيتا في الغزل. فقد نظمها الشاعر أساسا في مدح
ابن طاهر صاحب مرسية، فعظمت مكانته عنده وإليك نص الأبيات المشهورة منها:
يا ليل الصب متى غده؟
أقيام الساعة موعده؟
رقد السمار فأرقه
أسف للبين يردده
فبكاه النجم ورق له
مما يرعاه ويرصده
كلف بغزال ذى هيف
خوف الواشين يشرده
نصبت عيناى له شركا
فى النوم فعز تصيده
وكفى عجبا أنى قنص
للسرب سبانى أغيده
صنم للفتنة منتصب
أهواه ولا أتعبده
صاح والخمر جنى فمه
سكران اللحظ معربده
ينضو من مقلته سيفا
وكأن نعاسا يغمده
فيريق دم العشاق به
والويل لمن يتقلده
كلا لا ذنب لمن قتلت
عيناه ولم تقتل يده
يا من جحدت عيناه دمى
وعلى خديه تورده
خداك قد اعترفا بدمى
فعلام جفونك تجحده
إنى لأعيذك من قتلى
وأظنك لا تتعمده
بالله هب المشتاق كرى
فلعل خيالك يسعده
ما ضرك لو داويت ضنى
صب يدنيك وتبعده
لم يبق هواك له رمقا
فليبك عليه عوده
وغدا يقضى أو بعد غد
هل من نظر يتزوده
يا أهل الشوق لنا شرق
بالدمع يفيض مورده
يهوى المشتاق لقاءكمُ
وصروف الدهر تبعده
ما أحلى الوصل وأعذبه
لولا الأيام تنكده
بالبين وبالهجران فيا
لفؤادى .. كيف تجلده؟
ومن جماليات هذه القصيدة أنها جاءت على بحر الخبب الذي يتميز بالخفة والسرعة، وهذا يجعله لا يصلح إلا للأغراض الخفيفة الظريفة وللأجواء التصويرية التي يصح فيها أن يكون النغم غالبا فكأنما النغم يقفز من وحدة إلى وحدة راكضا كالخيل.
وللعلم فعلي الحصري القيرواني لم يكن محروما بما فيه الكفاية، فموشّحه ليس وليد حرمان بقدر ما يأتي من قناعة بأن اللقيا لا تطفئ نار الشوق ولعلّه يعطي درسا في قوة المعنى للشاعر العظيم جميل بن معمر المثنى حين اعتبر نار الشوق تنطفئ حين لقائه بالحبيبة في قوله:
يموت الهوى مني إذا ما لقيتها ويحيا اذا فارقتها فيعود
هوى الفتى القيرواني شيء آخر يكمن سره وسحره في سؤال العارف: يا ليل الصب متى غده أقيام الساعة موعده...؟ فأجمل الأشواق وأشدها عبقا تلك التي يعتقها الزمن على نار الانتظار. أثر هذه الرائعة الفنية في الشعر العربي:
أمّا معارضات الشعراء لقصيدة (ياليل الصب متى غده) فتطول قائمة أسماء الشعراء الذين عارضوها فيما حتى يكاد يضيق المجال هنا بهم، بل إن الكثير من أولئك المعارضين لا يُعرَف عنهم من شعرهم سوى أنهم كتبوا معارضة لـ (يا ليل الصب)، حتى وجد من معارضيها من ضاع اسمه وبقيت معارضته، وحتى وجد ثلاثة شعراء من أسرة واحدة ساهموا في معارضتها وهم فوزي معلوف وعيسى معلوف وقيصر معلوف، وقد أورد المرزوقي في كتابه 38 معارضة من مختلف العصور، أشهرها ولا شك معارضة الشاعر المصري الكبير أحمد شوقي الذائعة الصيت (مضناك جفاه مرقده)، ومنها معارضة أبي القاسم الشابي وخير الدين الزركلي وأحمد عبيد وأبي الهدى الصيادي والزهاوي وإسماعيل صبري ومحمود بيرم التونسي... هذه القطعة الفنية العجيبة هي القصيدة الثانية في عدد المعارضات بعد رائعة ابن زيدون: أضحى التنائي بديلا من تدانينا...
القيروان في شعره:
وقد آلمته نكبة القيروان كبقيةِ شُعراءِ عَصْرِه، فقال ينْدُبُها بقصيدةٍ طويلةٍ منها ما يلي :
مَوتُ الكرامِ حياةٌ في مواطِنهمْ
فَإن هُم اغتربُوا مَاتُوا وَمَا ماتوُا
يا أهلَ ودّيَ لاَ والله ما انتكَثَتْ
عندي عهودٌ ولا ضاقتْ مودّاتُ
لِئن بَعد ثُم وحال البحرُ دونكُمُ
لَبينَ أرواحنَا في النَّوم زَوْراتُ
ما نمت إلاّ لِكي ألقىَ خيالكُمُ
وأين مَنْ نازحِ الأوطـانِ نومـاتُ
أصبحتُ في غُربتي لو لا مكاتِمتي
بكتني الأرضُ فيها والسماواتُ
كَأنّني لم أذُقْ بالقيروانِ جنى
ولم أقلْ هَا لأحبابي وَلاَ هَاتوُا
ألاَ سَقى الله أرْضَ القيروانِ
حَيا كأنَّه عبراتي المُستهلاتُ
وتوقّفت رحلة الإمتاع والإبداع بالمغرب الأقصى حيث حلّ بمدينة طنجة، وفيها توفي سنة ثمان وثمانين وأربعمئة للهجرة 488 هجري.
وعند التدقيق في الشعر نلاحظ أنَّ الحُصْري أكثر براعة من صاحبيْه: ابن رشيق وابن شرف، ولعلَّ لآفة العَمى التي أصيب بِهَا الحُصْري دور في ذلك. وقال ابن بشكوال في حقه: أديب رخيم الشعر، حديد الهجو شعره كثير وأدبه موفور. ومن شهادة عبدالواحد المراكشي:
«إن الحصري الأعمى كان أسرع الناس في الشعر خاطرا».
لكن يد المنون كانت أسرع من خاطره لتترك لنا علما قيروانيا خالدا اسمه ذائعا صيته مشرقا ومغربا. يتنافس الشعراء في معارضة قصيدته والدارسون في قراءة شعره والمتعلمون في الاستزادة من علمه والتغذي من أدبه. ولكن الحصري خلّف من بعده أجيالا وراء أجيال إلى اليوم بل لعلّ القيروان مطبوعة شعرا مفطورة على إبداعه حتى صرنا اليوم نتحدث عن المدرسة القيروانية الحديثة في الشعر لنا وقفة أخرى إن شاء الله للنظر في أحد أعلامها.
@كاتب تونسي
العدد 2449 - الأربعاء 20 مايو 2009م الموافق 25 جمادى الأولى 1430هـ
اسماء اخرى
اريء اسماء اخرى لالشعراء