قبل الحديث عن تطور اللهجة وتطور الثقافة لا بد لنا أن نوضح أن هناك نظريتين لتناول التنوع الثقافي والتنوع في اللهجة في الوقت الراهن، وذلك يعتمد على إحدى فرضيتين، الأولى، أن التنوع في الثقافة واللهجة حدثت بسبب تعدد المجموعات التي سكنت البحرين. الثانية، أن التنوع حدث بسبب تطور حدث للثقافة أو اللهجة والتي كانت في الأصل نشأت في مجموعة واحدة انقسمت على نفسها. ويمكن إعادة بلورة النظريتين كالتالي: الأولى وتنص على أن شعب البحرين القديم كان مجرد قبائل متفرقة تعايشت على أرض واحدة، وعلى مدى السنوات اللاحقة حدث استيطان لقبائل وجماعات أخرى ونتج عن ذلك هذا التنوع. أما النظرية الآخر فترى أن سكان البحرين القديم عبارة عن كتلة واحدة تفرعت منها مجموعات فرعية وأصبحت كل مجموعة فرعية نواة لتكوين جماعة جديدة (أي تأثير المؤسس)، ثم تلى ذلك استيطان لقبائل وجماعات أخرى منها من خالط الجماعات القديمة وتزاوج منها ومنها من فضل الانعزال.
والعامل المرجح الوحيد لإثبات أي النظريتين أصح هو وجود «تأثير المؤسس» فإن أثبتنا وجود «تأثير المؤسس» فهذا يعني أن النظرية الثانية هي الأصح وعليها يمكن دراسة تطور اللهجة والنقل الثقافي وغيرها. وإن عجزنا عن إثبات «تأثير المؤسس» فستكون الأولى هي الأصح. هنا نحن نرجح النظرية أو المنهج الثاني الذي يرجح وجود «تأثير المؤسس» فقد رجحنا في الحلقات السابقة حدوث «تأثير المؤسس» وذلك على اعتبار وجود علامة جينية مشتركة ألا وهي فقر الدم المنجلي. وحتى نتمكن من توضيح كيف يكون فقر الدم المنجلي علامة جينية مميزة لابد لنا من إعطاء مقدمة عن معنى العلامة الجينية المميزة وكذلك خصائص الجين المميز لفقر الدم المنجلي.
التباين الجيني
تعتبر المادة الوراثية الـ DNA الملف الجزيئي للأركولوجيا البيولوجية بحيث يمكن تصفح أسرار الماضي والحاضر والمستقبل والتعرف على فصولها عبر التحليل الجزيئي المقارن لهذه المادة بين الكائنات بما فيها الإنسان. ويكون الـ DNA ما يسمى بالجينات ويكون كل جين مسئول عن تصنيع بروتين معين. الجدير بالذكر أن 3 في المئة فقط من الـ DNA هي التي تكون الجينات الحقيقية أما الباقي (97 في المئة) فلا يعطي أي نتاج. وهكذا يكون تركيب كل جين من جزئين جزء يتم ترجمته لبروتين وجزء آخر لا يدخل في الترجمة وإنما يكون بمثابة الحماية للجزء الذي يترجم. وعلى مدى آلاف السنين حدث تغير في التركيب التسلسلي لوحدات الـ DNA المكونة للجين في المناطق التي لا تترجم بحيث لا تؤدي لتغير البروتين المنتج. وبهذه الصورة أمكننا الحصول على عدة صور للجين الواحد. هذه الصور المختلفة من الجين الواحد هي ما تعرف بالتباين الجيني، وفي الغالب لا يوجد العديد من هذه الصور، فهي ما بين 3 إلى 4 صور أو أكثر أو أقل من ذلك بقليل.
الاستفادة من صور الجينات
سنفترض هنا ثلاث حالات أو أمثلة ومن خلالها سنتمكن من معرفة أهمية هذا التباين، في الحالة الأولى نفترض أن للجين A ثلاث صور مختلفة منتشرة في العالم وهي A1، A2، وA3 وكذلك الحال للجين B وللجين C. فاحتمال أن يرث شخص من أبويه صور الجينات (A1، B1، C1) هو 1 من 27. إذا فلو اخترنا عشرين جينا ولكل جين عشرين صورة، فإن احتمال أن يرث شخص ما عشرين صورة من العشرين جينا هو احتمال ضئيل جدا. كما أن احتمال أن يكون هناك شخصان ورثا نفس الصور من العشرين جينا أقرب إلى أن يكون مستحيلا وهذا هو مفهوم البصمة الجينية إذ تصبح هناك صورة جينية خاصة بكل فرد يستحيل تكرارها في نفس المجتمع على الأقل.
في مثال آخر نفترض أيضا أن طفرة تسبب مرضا وراثيا حدثت في منطقة جغرافية معينة على أحد الجينات فإنها في الغالب تحدث على صورة الجين الأكثر انتشارا بين سكان هذه المنطقة، فلو افترضنا أن الطفرة حدثت على الصورةA1، وهذه الصورة غير موجودة أو نادرة الوجود بين أفراد هذه المنطقة فهذا يرجح أن طفرة المرض لم تحدث في الأصل بين هذه الأفراد وإنما بين أفراد منطقة أخرى وانتقل المرض لهذه المنطقة بسبب موجات الهجرة. وهنا يأتي دور الأرشيف التاريخي للمنطقة في ترجيح ذلك.
وأخيرا نفترض أن طفرة تسبب مرضا وراثيا حدثت في منطقة جغرافية معينة على أحد صور الجينات نفترض أنها A1، وفي منطقة جغرافية أخرى حدثت نفس الطفرة المسببة لنفس المرض السابق ولكن على صورة أخرى من الجين A2، ثم تكرر الحدث السابق على صورة ثالثة من الجين A3. فهذا يعني أن المرض نتج ثلاث مرات في ثلاثة شعوب مختلفة وكل صورة من المرض تعتبر علامة جينية مميزة للشعب التي حدثت فيه. وأكبر مثال على هذا النمط هي الطفرة المسببة لمرض فقر الدم المنجلي التي حدثت خمس مرات على الأقل في خمس مناطق جغرافية مختلفة. ويمكننا توضيح ذلك كالتالي.
مجموعة الجينات التي تصنع هيموغلوبين الدم
يصنع الهيموجلوبين بواسطة مجموعة من الجينات وليس جينا واحداَ فقط، تسمى هذه المجموعة باسم تجمّع عائلة بيتا غلوبين التي توجد على الكروموزوم رقم 11، وكل جين في هذه المجموعة مسئول عن تكوين جزء من أجزاء الهيموغلوبين.
تلك الجينات الخاصة بتصنيع الهيموغلوبين، كغيرها من الجينات، يوجد بها تباينات أيضا. فهناك صور للجين بيتا غلوبين (أحد جينات الهيموغلوبين المهمة) نتجت عن وجود خمس تباينات وكل نوع من هذه التباينات يطلق عليه اسم فريمورك Framework واختصارا يقال Fw. ولقد أعطي كل فرامورك رقما وبالتالي أصبح لدينا صور مختلفة يرمز لها بأعداد تدل على نوعها وكلمات منها ما تدل على الإثنية البشرية المرتبطة بها.
وبما أن جين بيتا غلوبين في الإنسان يوجد مرتبطا مع مجموعة أخرى من جينات لها علاقة بتصنيع الهيموغلوبين فإنه يتم إيجاد التباين في المجموعة بأسرها وبذلك نحصل على مجموعة من التباينات الجينية المرتبطة مع بعضها البعض لإعطائنا ما يعرف بالهابلوتايب Haplotype وهي خطوة تحليلية أكثر تعقيدا ذات دقة عالية في تحديد البصمة الوراثية للأفراد والمجموعات السكانية. ويوجد عدد كبير من الهابلوتايب لمجموعة الجينات الخاصة بتصنيع الهيموغلوبين.
طفرة مرض فقر الدم المنجلي والتباين الجيني لجين بيتا غلوبين:
ينتج مرض فقر الدم المنجلي عن طفرة جينية محددة في جين بيتا غلوبين في الإنسان ذات صورة ممرضة. ويعبّر هذا الجين عن السلسلة الببتيدية بيتا غلوبين وهي إحدى سلسلتين يجب توافرهما لتكوين جزء الهيموغلوبين. وفي حالة حدوث الطفرة فإن الخواص الكيميائية الطبيعية للهيموغلوبين تتغير بحيث تأخذ خلية الدم الحمراء الشكل المنجلي عند انخفاض نسبة الأكسجين مما يقلل من كفاءة الهيموغلوبين في توصيل الأكسجين للخلايا الأخرى ويعيق حركتها في الأوعية الدموية مسببا انسداد الشرايين والأوردة. ولهذه الأسباب يعاني المصابون بهذا المرض بالأزمة المميزة لمرض فقر الدم المنجلي نتيجة هذا الانسداد في الأوعية الدموية وخصوصا في العظام.
وبفضل دراسة ذلك الارتباط بين الطفرة المؤدية لمرض فقر الدم المنجلي والهابلوتيب أمكننا معرفة أن الطفرة المؤدية لمرض فقر الدم المنجلي ظهرت خمس مرات على الأقل على خمسة أنماط من الهابلوتايب، وعند ربط تلك الهابلوتيب بالأصول التاريخية والإثنية لكل الجماعات السكانية التي ينتشر بها مرض فقر الدم المنجلي تم تحديد أصول كل نوع من أنواع تلك الهابلوتيب المرتبطة بطفرة فقر الدم المنجلي، فتبين أن أربعة منها ذات أصل إفريقي وواحدة منها من أصل آسيوي. وعلى أساس نوعية الهابلوتايب وأصله تم تقسيم التباينات المرتبطة بطفرة فقر الدم المنجلي إلى خمسة أنواع هي (خارطة رقم 1 وخارطة رقم 2):
1 - نوع بنين: منتشر في شمال وغرب شمال إفريقيا.
2 - نوع بانتو: منتشر في وسط وشرق إفريقيا.
3 - نوع السنغال: في السنغال.
4 - نوع الكاميرون: في الكاميرون.
5 - نوع الهندي- العربي: في الشعب القبلي في شبه القارة الهندية وفي شرق الجزيرة العربية وخصوصا البحرين وشرق الجزيرة العربية.
العدد 2449 - الأربعاء 20 مايو 2009م الموافق 25 جمادى الأولى 1430هـ