العدد 3126 - الإثنين 28 مارس 2011م الموافق 23 ربيع الثاني 1432هـ

اللا عنف في التغيير... «القوة الناعمة»

منصور القطري comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

«ويح قريش أكلتها الحرب» الرسول الأعظم (ص)...

يستمد معظم المدافعين عن اللا عنف مبادئهم من خلفية قائمة على اتجاهين: اللا عنف الديني الأخلاقي واللا عنف النفعي (البراغماتي) وفي هذه السطور سنحاول تأصيل أو التأكيد على أهمية اللا عنف في الفكر الإنساني بشكل عام وفي خط بنية الأديان السماوية بشكل خاص.

بداية نقول: إن هناك قاسماً مشتركاً في مشروع اللا عنف يقوم على أن سلطة الحاكم تعتمد على موافقة الرعية (عقد اجتماعي بينه وبين الرعية)، وإذا فقدت هذه الموافقة بأي شكل من الأشكال السلمية يصبح النظام الإداري للدولة بما يشتمله من مؤسسات كالجيش أو الشرطة عاجزاً عن أداء دوره بسبب عدم الانصياع.

والمعادلة تقول إن السلطة تعتمد على تعاون الآخرين واللا عنف يسعى إلى التقليل من سلطة الحاكم من خلال الانسحاب المتعمد من هذا التعاون والخضوع، هنا تشتد الحاجة إلى ضبط ولجم الدول باعتبارها أكبر الهيئات امتلاكاً لوسائل العنف (الجيوش الدائمة) والحذر والتوجس من هذه القوة العاتية... يقول الحسن البصري: «إذا رأيتم شرطياً نائماً عن صلاة فلا توقظوه إذا قام فإنه يؤذي الناس فنومه أحسن»، وعليه فإن اللا عنف هو وسيلة عادلة تسعى إلى تحقيق نتائج عادلة وهذا ما أكدتُ عليه تكراراً ومراراً في لقاءاتنا مع الشباب والأمر يحتاج إلى تثقيف وإعداد وقيادة فالبعض يرى في اللا عنف ضعفاً!، والبعض الآخر يخلط بين الوسيلة والهدف!، فهل المظاهرات والاعتصام والاحتجاجات السلمية وسيلة أم غاية؟

قال غاندي «الوسائل للنتائج كالبذرة للشجرة» وهي رسالة مجازية عميقة لأنصار اللا عنف في التغيير باعتبار أن الوسائل السلمية تؤدي في نهاية المطاف إلى خلق مجتمع مسالم والعكس صحيح، وهذا ما عززته الدراسات النفسية في تفسيرها لظاهرة حلقة العنف المفرغة فهي إن بدأت لا تنتهي وقد نبه إلى ذلك عبدالغفار خان القادم من بيشاور وصديق غاندي، حيث عملا معاً حتى العام 1947 وهو شخصية لم تأخذ نصيبها من الاهتمام إذ يقول: سأقدم لكم سلاحاً فريداً لا تقدر الشرطة ولا الجيش على الوقوف ضده. إنه سلاح النبي لكن لا علم لكم به، هذا السلاح هو الصبر والاستقامة. ولا توجد قوة على وجه الأرض تستطيع الوقوف ضده.

اللا عنف هو إذاً الآلية البديلة التي تنتج مجتمعاً مسالماً هي «قوة الحقيقة» أو «قوة المحبة» وهو الوسيلة التي حارب بها غاندي هذا الرجل النحيل صاحب الروح العظيمة الذي انتصر على «الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس» ودحر الاحتلال البريطاني عن شبه القارة الهندية وكذا الحال بالنسبة إلى تلميذه مارتن لوثر كينغ الذي حرر السود في أميركا من العبودية والتمييز العنصري بسبب اللون وهو من الشموع التي أنارت الطريق ليكون أوباما الأسود رئيساً لأميركا اليوم، وتبعه نيلسون مانديلا المعاصر الذي استطاع أن يتغلب وهو قابع في سجنه 27 عاماً على حكومة جنوب إفريقيا التي أذلت أهله وناسه لأكثر من قرن كامل عبر سياسة الفصل العنصري ضد السود.

إنني أدعو هنا إلى تبني «الاستراتيجية اللا عنفية» باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من بنية القيم والفكر الديني الإسلامي وليس باعتبارها أداة أو أسلوباً براغماتياً نفعياً يركز ويهتم بفاعلية اللا عنف السياسية دون النظر إلى أي بعد ديني أو أخلاقي كما تفعل بعض الأحزاب السياسية، ويمكننا تتبع ورصد منهج اللا عنف في جميع الأديان الإبراهيمية الثلاثة (الإسلام والمسيحية واليهودية) وكذلك في تقاليد الأديان الكبرى الأخرى (الهندوسية والبوذية والسيخية).

وأكثر ما تبدو هذه الاستراتيجية إشراقاً في قول الحق جلّ وعلا «وَلا تَسْتَوي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَليٌّ حَميمٌ» (فصلت: 34)، وأدعو إلى أن تكون هذه الآية معلقة في مجالسنا ومصانعنا ومزارعنا ومدارسنا ومقرات أعمالنا لكي تحفر بعمق في دواخلنا وتنعكس في مسلكياتنا ميدانياَ، كما أشجع أن تحضر أطروحات الدكتوراه حول «اللا عنف في المنهج الإسلامي»، حتى نقدم للعالم تشريحاً ثقافياً دسماً ورؤية تاريخية مشبعة بالنص، وخصوصاً نحن نرصد حالة الغياب الملفت للبحوث والدراسات المتعلقة باللا عنف في الساحة الثقافية ما أدى بشكل غير مباشر إلى انتشار الفكر المتعصب وعقلية تكفير الآخرين والتفجيرات الإرهابية في الأبرياء المسلمين وغير المسلمين ولعلنا بذلك نقرع الجرس أمام الغفلة الفكرية والأكاديمية لدور الجامعة والجامع في المجتمع.

إن عملية تتبع للاتجاهات اللا عنفية في الإسلام تبرز الجواب الرائع لأول صراع ذكر في القرآن هو جواب ابن سيدنا آدم حينما توعده أخوه بالقتل فقال له: «لَئنْ بَسَطتَ إلَيَّ يَدَكَ لتَقْتُلَني مَا أَنَا بِبَاسطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمينَ» (المائدة: 28)، وقد دعم الرسول الأعظم هذا الاتجاه بقوله «كن خير ابني آدم» يقصد قابيل وهابيل، كما أطلق سيد البشرية شعارات تغرس في النفوس الميل إلى المسالمة وعدم اللا عنف، حيث قال «تكون فتن، فكن فيها عبداً لله المقتول، ولا تكن القاتل»، وقد قدم الرسول (ص) القدوة والمثل عندما حوّل هذه الأقوال إلى ممارسات ميدانية في كفاحه اللا عنفي الناجح ضد قريش طوال 13 عاماً من دعوته وكان يكرر (ص) مقولته المشهورة «ويح قريش أكلتها الحرب»، وتبعه تلميذه الإمام علي حين أطلق حزمة من الشعارات: من عامل بالعنف ندم. رأس السخف العنف. راكب العنف يتعذر مركبه... الخ.

وتقرر أدبيات اللا عنف ما يزيد على 200 طريقة تكتيكية لا عنفية، إلا أن هذا المنهج يختزن في تقديري جنبة أو مسحة أخلاقية يمكن متابعتها حتى يومنا هذا من خلال ممارسات مجموعات إنسانية متعددة تذهب إلى أن اللا عنف أعلى وأسمى نوع من أنواع العبادات بالمعنى الغاندي المتمثل في فلسفة «الامتناع عن الإيذاء» بل تذهب رؤية أنصار اللا عنف إلى «احترام الأعداء ومحبتهم»، وهنا يتصاعد هذا المنهج ليكون أكثر قرباً إلى البعد الروحي في فهم اللا عنف ويتجسد ذلك في قول السيد المسيح (عليه السلام) في موعظة الجبل «أحبوا أعداءكم وصلوا من أجل الذين يسيئون إليكم»، وقول «حكيم الكوفة» الإمام علي «أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون عدوك يوماً ما، وابغض عدوك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما».

ويرتقي هذا المنهج إلى مستويات عليا من السمو ومن نكران الذات حتى يصل الأمر إلى التعاطف مع مطالب الآخرين وتبني قضايا المحرومين، يقول جيفارا «إنني أشعر على وجهي بألم كل صفعة توجه إلى مظلوم في هذه الدنيا، فأينما وجد الظلم فذاك هو موطني».

هنا يقف الجميع وقفة إجلال لـ «حلف الفضول» باعتباره أقدم وثيقة بشرية في مجال حقوق الإنسان بل وعن طريقها يمكن الكشف عن الريادة العربية في إنشاء أول جمعية للدفاع عن حقوق الإنسان عالمياً وقد بارك تأسيس هذه الجمعية الرسول الأعظم حين قال «لو دعيت لمثله في الإسلام لأجبت».

دروس رائعة من التاريخ ونحن على أعتاب القرن الحادي والعشرين الذي أتمنى أن يكون الأقل سفكاً للدماء من سابقه والأحفظ لكرامة الشعوب والأروع في نصرة المظلوم والأوسع للحريات.

وأختم هذه السطور بسؤال ينعش الحلم: هل يصعب على حضارتنا العربية الإسلامية أن تبتدع كائناً مثل غاندي أو داعية لا عنف وتسامح مثل مانديلا؟

سؤال لشحذ الهمم

إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"

العدد 3126 - الإثنين 28 مارس 2011م الموافق 23 ربيع الثاني 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً