لم يعد العالم العربي يقبل شكل العلاقات القديمة التي سادت الدول والمجتمعات. فكما يتغير الأفراد بين يوم وليلة، تتغير المجتمعات مطالبة بحقوق ضائعة وباستقلال عن حكوماتها وأنظمتها السياسية.
الشعوب العربية هي في طور التشكل والتغير.
ما هو قادم لايزال كبيراً، ولا يقل عن ثورة دائمة في أشكال وتعبيرات سياسية وثقافية وإنسانية مختلفة.
ما هو قادم أصعب من أن يحتوى بتنازلات شكلية أو بحلول اقتصادية لمشكلات هي في الأساس سياسية.
إن أصل الثورات العربية يعود إلى طبيعة إنسانية تبحث عن الكرامة والحريات. وهذا يرتبط في البلاد العربية بفساد سيطر وأغلال شيدت وأفكار قيدت.
أصل الثورات مرتبط بضعف في بنية الأنظمة السياسية العربية التي اعتمدت احتكار السلطة طريقة في الحكم ونتج من ذلك انتشار للفساد وتعميم للقمع.
إن نزعة الإنسان إلى الحرية تبدأ منذ لحظة استبعاده ثم منعه من التعبير، لهذا فإن حل أزمة البطالة لن يمنع الثورات، فالبطالة والإسكان والدخل جزء صغير من الكرامة الإنسانية ورغبة الشعوب في التحول إلى مصدر للسلطات.
وفي التاريخ الإنساني لا يوجد شعب ضعيف. الضعف والقوة أمران مؤقتان ونسبيان. ما يبدو أنه ضعيف قد لا يكون كذلك في الحقيقة.
هذه المعادلة جعلت بعض أكثر الأنظمة قوة يهوي فجأة.
الشعوب تقبل بتهميشها لفترة انطلاقاً من فوائد الاستقرار، لكن هذا لا يدوم طويلاً مع اكتشافها لذاتها ولوطنيتها وحقوقها ومع انكسار حاجز الخوف.
لهذا على كل من يحكم في العالم العربي الآن وفي هذا الظرف الثوري المتحول ألا يتساءل عن قوته وأسلحته بل عن عدله، وألا يتساءل عن ضعف من يحكمهم بل عن موعد اكتشافهم لقوتهم الكامنة، وألا يسعى إلى إدامة سلطة تسلطية لا يمكن أن تدوم، بل أن يكتشف طرقاً مبتكرة تقوم على الحوار والسعي نحو الإصلاح السياسي.
الحكم الصالح الآن يتطلب دساتير تؤكد قيم الحرية والعدالة، وتنجح في إرساء تقاليد التداول على السلطة في ظل انتخابات مفتوحة وضمانات لكل فئات وأقليات المجتمع.
هذا لا يعني أن الديكتاتورية ليست ممكنة في المرحلة العربية القادمة، لكنها ستكون مجردة من الشرعية في أعين المواطنين تتنازعها الأزمات العاصفة والمفاجآت.
نحن أمام مناخ جديد من الثورة الدائمة لا ينفع معه إطلاق النار وقصف الطيران. فما حققه نظام القذافي على سبيل المثال من تمدد عسكري ضد معارضيه يخسره سياسياً، ذلك أنه فقد الشرعية المحلية والإقليمية والدولية. فهناك الآن قرار دولي وتدخل عسكري دولي ووضع جديد سيفرض على النظام الليبي أن يتراجع.
من جهة أخرى، إن استخدام القذافي للسلاح الثقيل والطيران لضرب الشعب لن يعيد إليه شرعيته. لقد أصبحت معركة ليبيا كفاحاً قد يطول لإسقاط القذافي. وككل نضال فيه تقدم وتراجع.
ومن جهة أخرى، تمثل مبادرة الملك محمد السادس تطوراً على قدر كبير من المسئولية.
ملك المغرب، والذي تقع بلاده على حدود أوروبا، سار في الطريق قبل أن يبدأ الطريق، وحسم أمره قبل أن يحسم الشعب أمره. فقد التقط معاني التغير فوعد بالتنوع في المغرب وبالاعتراف بالهوية الأمازيغية، كما أقر مبدأ حكومة منتخبة بالكامل وملكية دستورية وتعديل الدستور وإقرار دستور جديد في مرحلة لاحقة.
لكن هذا لا يعني أن الشعب المغربي لن يخرج إلى الشوارع رغم وعود الملك، فالنتيجة النهائية للإصلاح في المغرب ستقررها حالة التوازن والتسابق بين حركة الشارع الشبابية من جهة وبين مبادرة الملك وقوى المعارضة التقليدية من جهة أخرى. وهذا سيعني أن الوصول إلى الملكية الدستورية سيكون نتاجاً طبيعياً للحراك والصراع على أرض الواقع مما يصعب التراجع عنه. وقد تثبت الأحداث لنا أن هذا النموذج في التغير اقل كلفة من النماذج الأخرى.
الشعوب العربية تبحث الآن وسط الثورات الدائمة عن طريق تؤسس معه أساليب جديدة في النضال والمواجهة.
الأساس بالنسبة إلى الشعوب هو اكتشاف الطريق السلمي في التغير كما حصل في تونس ومصر، وكما يحصل من جانب المتظاهرين في البحرين واليمن وأخيراً في سورية.
لكن التحول إلى العنف المسلح في بعض الثورات (كليبيا)، هو الآخر ممكن، فقد اضطر الشعب الليبي المسالم والذي تعايش مع نظام القذافي الجنوني لعقود عدة إلى حمل السلاح للدفاع عن نفسه، بينما من جهة أخرى نجد أن الشعب اليمني المسلح بطبعه قرر صنع ثورة سلمية يدفع من خلالها تضحيات كبيرة من اجل إسقاط النظام. وقد تشهد المنطقة العربية حروباً شعبية عدة طويلة المدى وسط تدخلات دولية وإقليمية. وقد تكون في بعض الحالات نماذج تخلط بين الأسلوب السلمي والعنيف.
في المرحلة الجديدة لن يكون الحجر على حرية الرأي مقبولاً. لن يكون سجن صاحب الرأي ممكناً بلا مقاومة، ولن يكون انتهاك حقوق الإنسان مقبولا، ولن يكون السكوت عن الفساد والتسلط أمرا طبيعياً.
في المرحلة الجديدة لن يقبل الناس بعدم المشاركة ولن يخضعوا لإعلانات الطوارئ بلا مواجهات تزداد اشتعالاً. سيتصرفون انطلاقاً من حقهم الطبيعي في العدالة والمساواة التامة في أوطانهم. وهذا سيعني اعتبار الوطن ملكاً للجميع وليس لفرد أو جماعة.
نحن إذا أمام مشهد يمتلئ تدفقاً وهو لن يتوقف حتى لو أوقفت بعض الثورات بالقوة، فحراكها السياسي سيستمر تحت الرماد ووسط الناس مما سيحدث مناخاً معطلاً للاقتصاد والأعمال والحياة والسياسة، وذلك إلى أن يتم إيجاد تسوية سياسية تقوم على مبدأ الحريات والمساواة وصولاً إلى تداول السلطة.
لقد مثل تدخل قوات «درع الجزيرة» في البحرين بنظر البعض خطأ، على رغم شرعيته القانونية. وقد أصابت الكويت في إرسال مستشفى وليس قوة عسكرية. فهناك من يرى أن دور «درع الجزيرة» يقوم على عدم التدخل في الصراع الداخلي، وأن ما وقع في البحرين صراع داخلي وليس تهديداً خارجياً.
يجب أن نكون موضوعيين وألا نطبق معايير مزدوجة، فنؤيد التغير والحقوق للشعوب العربية ثم نرفضه لمجتمعات عربية أخرى. يجب ألا نغمض أعيننا عن التمييز والظلم حين يقع وإلا مارسنا خيانة لمبادئ العدالة التي يجب أن توجه رؤيتنا، فالحقوق والكرامة مطلوبة للجميع.
المطلوب الآن هو البحث عن آلية حوار صادقة يمكن أن يقودها ولي عهد البحرين الذي يتمتع بمرونة، لكن هذا يتطلب احتواء لكل عناصر الأزمة.
قد يعتبر البعض أن الثورات فعل تدميري، وفي هذا بعض الحقيقة، فهي تنسف القديم، كما تعبر عن فقدان شامل للثقة بالقوى الحاكمة، وهي تجلب معها نسباً مختلفة من الفوضى. ولكن الثورات في التاريخ البشري لا تندلع إلا في مجتمع يشعر بالكثير من التفاؤل والثقة بالنفس والعمق التاريخي مصحوباً بشعور عميق بالظلم والاستثناء والتمييز والتهميش. في كل هذا حكمة إنسانية.
في السابق انقسم العرب إلى رجعي وتقدمي، ثم أصبحوا يصنفون رافضين ومستسلمين، وأخيراً أصبحوا منقسمين بين ممانعة واعتدال، أما الآن فسيكونون منقسمين إلى معسكرين جديدين: قوى المعسكر الديمقراطي وقوى المعسكر غير الديمقراطي وقوى ربما تكون في الوسط مرحلياً بين هذا وذاك. ومع الوقت (وقبل نهاية هذا العقد) ستكون قوى المعسكر الديمقراطي هي الأغلبية، إن لم تكن الجميع، وهذا سيغير طبيعة جامعة الدول العربية ومجلس التعاون بل ومهام كل منهما. نحن في بداية سلسلة كبيرة من الثورات والانتفاضات والتغيير الشامل
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 3124 - السبت 26 مارس 2011م الموافق 21 ربيع الثاني 1432هـ
ثورات شعوب .. وواقع حكومات
على الحكومات اليوم أن تدرك تغير معادلة الحاكم والمحكوم ، والتسلط بالقمع والترهيب ، ما عادت هذه اللغة صالحة اليوم للبقاء على سدة السلطة، فلابد من شراكة حقيقية للشعوب مع حكوماتها في إدارة شؤون بلدانها .. وعلى الاستكبار أيضا أن يبني علاقاته مع الشعوب على أساس من تبادل المصالح ، لا بنهب الثروات وخيرات ومقدرات الشعوب ، بحيث ينبي الغرب حضارته في قبال فقر وتخلف لحضارات الشعوب صاحبة الثروة البانية لكل دول العالم ......
مصحوباً بشعور عميق بالظلم والاستثناء والتمييز والتهميش. في كل هذا حكمة إنسانية.
ولكن الثورات في التاريخ البشري لا تندلع إلا في مجتمع يشعر بالكثير من التفاؤل والثقة بالنفس والعمق التاريخي مصحوباً بشعور عميق بالظلم والاستثناء والتمييز والتهميش. في كل هذا حكمة إنسانية.