حديث «البالوعة» يعلو فوق أي حديث آخر في العالم العربي والعالم، فالوثائق «السرية» تم اختراقها أو تسريبها، المهم هو النتيجة...
ما نشهده من حفل «تكذيب» و»نفي» و»توظيف سياسي» يصبّ في النهاية في خانة أن عالم السياسيين ليس نظيفاً، وهذا ما يعيد تثبيت صورة في الأذهان عن الوجه القبيح للمشتغلين في هذا الشأن.
ينقل الكاتب ذوقان قرقوط في كتابه «الأسطورة والحقيقة في التاريخ العربي الحديث، محمدعلي وجمال عبدالناصر» أن محمدعلي باشا خاطب يوماً وزيره الأرمني «أرتين»، وكان يقوم بترجمة كتاب مكيافيللي المعنون باسم «الأمير» وهو في اليوم الثالث من عمله.
«إني أرى بوضوح أنه ليس لدى مكيافيللي ما يمكنني أن أتعلم منه، فأنا أعرف من الحيل فوق ما يعرف، فلا داعي للاستمرار في ترجمته»، وهذا بحد ذاته درس من دروس الاحتيال في عالم السياسة والسياسيين.
وحتى لا نقع في المحظور ونبدأ بالتعميم، يستحسن التنبيه إلى أن هذا الوجه «القذر» يحتاج إلى توضيح، فليس كل ما هو سياسي يوضع في تلك الخانة، فالسياسة لغة المصالح، وهذا من شأنه الخلط بالمفاهيم عند البعض فالمصالح عند السياسيين تعني أمراً واحداً وهو تجاوز العمل الأخلاقي بالمفهوم الخيري والإنساني في حالات الضرورة والدفاع عن مصالح الدولة المشروعة والقومية، فإذا كانت هناك من صفة للسياسي يضطر فيها «للكذب» فذلك نابع من حرصه على حماية مصالح الدولة التي ينتمي إليها، وهذا ليس تبريراً، فهناك من الزعماء من يلجأ للكذب وقت الحروب، وقد يخفي جزءاً من الحقيقة، فأسامة الغزالي حرب يختصر الحالة السياسية الراهنة بالقول «نحن نعيش عصر الكذب السياسي».
ما طغى على السطح أن لغة الناس في خضم تدفق وثائق موقع «البالوعة» رفع منسوب عدم الثقة بالسياسيين، بعدما انكشف «الكذب» عند بعضهم، وهذا يقودنا إلى الضجة التي أثارها الرئيس الأسبق جورج بوش الابن في مذكراته التي طرحها بالأسواق وحملت عنوان «لحظات القرار» وفي هذا الصدد يتحدث عن كيفية اتخاذ القرارات وعن «إيجاد البيئة الصحية»، ففي المحاضرة التي ألقاها عند زيارته للكويت في 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2010 قال «اخترت الجميع إبداء الرأي فيها بحرية، فالبعض كان يقول لي إنني جميل في حين أنني يجدونني بشعاً» ثم يكمل فكرته وينهيها بأنه يكره من يقول دائماً نعم.
إذن مسألة عدم قول الحقيقة يدركها معظم السياسيين، وإن حاولوا التلاعب بكلماتها، وهذا ما أوضحه علي مبروك أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة رداً على سؤال حول مذكرات بوش بأنه لا ينصح أحداً بقراءة مذكرات الرؤساء والحكام، لأنها ستكون مجموعة من التبريرات وليس التفسيرات لأفعالهم».
لقد أراد الرئيس بوش، الذي أمضى 8 سنوات يحكم العالم من البيت الأبيض (2000 - 2008)، أن يكون جزءاً من التاريخ، ولهذا كانت مذكراته محاولة لتصحيح صورته ورسم صورة مغايرة تحمل إرثه السياسي على نحو أكثر إيجابية بعد العودة إلى ولاية تكساس.
ربما كانت مطالعة مجلة فورين بوليسي، على المذكرات من القراءات ذات القيمة في الكتاب، حيث أوردت 14 قراراً، أغفلها الرئيس وكانت بمنزلة السقطات السياسية الكبرى، عكست «نقاط الضلال» ردا على الفصول الـ 14 التي تضمنها الكتاب، وهي على التوالي:
1 - القرار الخاطئ بتعيين ديك تشيني نائباً له.
2 - سحب توقيع بلاده على اتفاقية تشكيل المحكمة الجنائية الدولية.
3 - رفض التوقيع على بروتوكول كيوتو.
4 - الإصرار على موقفه المتعجرف من الإرهاب.
5 - الإخفاق في محاربة ظاهرة الإرهاب.
6 - الإيهام بالغرق في غضون أيام من هجمات 11 سبتمبر/ أيلول واللجوء الى التعذيب والترحيل القسري للمشتبه بهم.
7 - الخطأ بشعار «محور الشر».
8 - خوضه حربا في العراق قتلت 4 آلاف أميركي و100 ألف مدني عراقي من دون تحقيق النتائج المرجوة منها.
9 - توتر العلاقة مع إيران.
10 - استسلامه لإسرائيل وإخفاقه في سلام الشرق الأوسط.
11 - تراجع كفاءة أميركا والتخبط في مواجهة إعصار كاترينا.
12 - التلاعب بنشر الديمقراطية في العالم.
13 - رفض إجراء محادثات مع الدول التي تسعى لامتلاك السلاح النووي.
14 - قرارات خاطئة في مواجهة الأزمة الاقتصادية، التي هزت العالم.
خلاصة الكلام، أن الروايات التي أوردها بخصوص امتلاك العراق لأسلحة التدمير الشامل والحرب التي قادها في كل من أفغانستان والعراق تعرضت إلى «التكذيب» من قبل شهود نقلت مواقفهم بطريقة مخالفة لما حصلت، فالرئاسة المصرية والمستشار الألماني جيرهارد شرويدر نفيا وبشدة الأقاويل التي أوردها، لأنه أراد أن يبرّئ نفسه من مسئولية اتخاذ القرار باللجوء إلى ما يدعم سياسته و»اختلاق» وقائع كانت محل دهشة وانتقاد شديدين، إضافة إلى ما قيل إنه أقدم على سرقة أدبية من كتاب للصحافي أحمد رشيد، وادعى أنه حضر حفل تنصيب الرئيس الأفغاني كرزاي، وهو ما لم يحدث!
الرئيس بوش الابن، رفض الاعتذار مجدداً عن الحرب على العراق وأصر على رواياته التي سجلها في مذكراته، حتى وإن تعرضت إلى جملة من الردود، التي تظهر أن هناك حالة كذب في العمل السياسي، وهي حالة قد لا يكون الخلاص منها أمراً متيسراً ويسيراً في العصر الذي نعيشه الآن
إقرأ أيضا لـ "حمزة عليان "العدد 3124 - السبت 26 مارس 2011م الموافق 21 ربيع الثاني 1432هـ
