مضى الآن شهر وبضعة أيام ونحن نُكابِدُ في البحرين أزمة مُزدوجة (سياسية/ اجتماعية) طاحِنة. أمام كلّ حَدَثٍ يقع أستحضر شيئاًَ من التاريخ. من الجغرافيا. من السياسة. من الاقتصاد. علم النفس. ومن الاجتماع أيضاً وهو ما أعنيه في مقال اليوم، وعَنَيْته كذلك في جميع مقالاتي السابقة خلال الأزمة والتي وفَّرتها لسَبْرِ إشكال الصراع الطائفي الجاري والذي قفز على أصل الصّراع السياسي بين الحكم والمعارضة. فهو (أي الحالة المجتمعية) وقبل كلّ شيء هي ميدان السِّلم الأهلي الذي تستوي عليه كلّ الأشياء من سياسة واقتصاد وغيرها.
ضمن ما أستحضره في هذه اللحظة نماذج لمجتمعات يُحيطها التنوُّع ويضمها التعايش. جزر موريس الواقعة في المحيط الهندي ضمن أرخبيل مَسكارنيي هي نموذج مهم للقراءة. هذه الجزر لا يزيد تعداد سكانها على المليون نسمة لكنهم يتوزّعون على سبع ديانات (هي الأدفنتية، البوذية، الكاثوليكية، الهندوسية، الإسلامية، والبروتستانتية والتامولية) بمعنى أن لكل 142.8 ألف نسمة ديانة ويتحدثون بعشر لغات (هي اللغة المزيج، الفرنسية، الإنجليزية، البوجبورية، الهندية، الهندوستانية، الصينية، الأردية، التامولية والكجراتية) بمعنى أن لكل 100 ألف نسمة لغة خاصة بهم. وهو انشطار إثني/ لساني وديني حاد جداً.
ما يهُم من كلّ ذلك هو أن أحد الباحثين وهو عيسى أسغورالّي أجرى استبياناً أظهر أن اللغة المزيج هي من يتحدث بها أغلب الموريسيين. فـ 74.5 في المئة منهم يتحدثون بها مع أمهاتهم. و81.5 في المئة يتحدثون بها مع العجائز. و91.7 في المئة يتحدثون بها مع أصدقائهم. و45.5 في المئة يتحدثون بها إلى الموظفين. في حين أظهرت الدراسة أن اللغات العالمية مثل الإنجليزية والفرنسية لا يتم التحدث بها إلاّ في مجال الأعمال التجارية رغم أنها لغات صلبة وعالمية وراسخة، في حين لم تحرز اللغات الأخرى أيّة قيمة فعليّة في المسح الذي أجراه الباحث (للاستزادة يُمكن مراجعة كتاب "حرب اللغات والسياسات اللغوية" لـ لويس جان كالفي).
كلّ تفاصيل البحث لا تهمنّي بقدر ما يهمني أمر واحد يدعم ما أقول. هو توافق المجموع وتسالمه على صيغة لغويّة واحدة اختصرت تسع لغات هي بالأساس لغات أصليّة لسُكّان الجزر المذكورة. وكان بإمكان أصحاب اللغات الأصليّة أن يتحدثوا بها كلغة تمايز عن الأغيار. بل الأكثر من ذلك، فإن أصحاب اللغات العالمية كالإنجليزية والفرنسية من الموريسيين لم يعودوا يتحدثون بها كلغة أولى رغم أنها تعتبر في كثير من البُلدان وفي قاموس العالَم الأول والصناعي/ العلمي المتقدم كلغات حُظوة وأكاديمية، ولغة للمعيار والمماثلة والرُّقي.
لو عكسنا ذلك المشهد المُعقَّد على أوضاعنا في البحرين فإننا سنرى أن التقسيم اللغوي/ الديني ليس بذلك التشظِّي والانقسام. فاللغة المعتمدة هي العربية مع استخدام علمي/ صناعي للغة الإنجليزية ليس باعتبارها لغة أصليّة وإنما لغة يُتَحدَّث بها في النشاطات التجارية والصُّروح العلمية. والدين (هنا) الذي يدين به السواد الأعظم وشبه الكلي هو دين واحد فقط (الإسلام). إذاً فهامش الاختلاف اللغوي والديني لدينا يكاد لا يُذكر. صحيح أن هناك أدياناً أخرى ولكنها أديان حَصْر وليست نَشْر كما يُقال. وحتى اللغات الأخرى هي لغات مُهاجِرة تأتي وتذهب ببقاء أفرادها. لذا فإن الأصل هو أحادية اللغة والدين في البحرين.
القِيمة الأكثر فائدة من تجربة الموريسيين هي تغليبهم للمنطوق الذي ولَّدته الأرض وليس شيئاً آخر. الأرض التي مثَّلت وحدة اشتراك حقيقية بين الناس، إلى أن خلقت لديهم صيغة لهوية ناجزة ومُتحققة تجاوزت كل العقد الإثنية واللسانية. وحتى الحالة الدينية المتشظية لديهم استقرت على ذلك التسالم دون صراع. الحال بالنسبة إلينا ليس أصعب ولا هو مُتعذّر إلى الحد الذي يُولِّد لدينا مثل هذا الانقسام الذي أراده له البعض أن يُفرَض علينا كبحرينيين. بل الأكثر أن تحقق ذلك الانسجام اللغوي والديني في البحرين هو أصيل ولم يخلقه التدافع عبر التاريخ، وهو ما يجعل الأمر أكثر تماسكاً، وفيه من الصِّدقيّة الكثير.
اليوم ما يجب أن يُدرَك لدى كلّ البحرينيين أن المشترك بينهم هو الأرض وما ولَّدته من حقائق تفرض نفسها بشكل يومي. فالأصل في الاشتراك هو الأرض التي أنبتت لغتهم وليس السياسة التي قد تذهب وتجيء. فالأرض هي ركيزة أصلية في كلّ شيء، في التعايش والانتماء. حتى الدراسات السياسية الآن باتت تتحدث عن الجغرافيا كوعاء أوَّل للحضارات واللغات والهويات. سواء تلك الموجودة في جنوب العالَم أو شماله. وربما شاءت الأقدار أن يجلس العالَم كلّه على أقاليم جغرافية أربعة فيُحَدَّد مصير البشر. ونحن مصيرنا جميعاً مرتبط ببعضنا البعض، لأن القاسم المشترك بيننا هو أننا نعيش على هذه الأرض الطيبة
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3123 - الجمعة 25 مارس 2011م الموافق 20 ربيع الثاني 1432هـ
حب الوطن
الاخ محمد على الرغم من كلامك المنطقي وكل الدعوات التي تبث الى التهدئة الا وكاننا اصبحنا في عالم لا حياة لمن تنادي نتكلم ونصرخ ونبكي ولكن لا فائدة من الكلام...وكانما اناس اعجبهم الحال الذي وصلنا اليه! ما يسعننا الا رفع ايدينا بالدعاء لله عز وجل وعدم اليأس من رحمته... فبعد كل لليل ياتي الصباح وبعد كل عسر ياتي اليسر
ابــــ سيد رضا ــــو
ان من المحزن ان ترا الكثير من الناس يتعاملون من الرائ المضاد لهم انهم لا يستحقون هذه الارض و هذا مكمنالخطاء لا ن اختلاف الرائ لا يفسد للود قضيه و العكس صحيح بالنسبة لهم .
لان مصالحهم ارتبطت بالرائ الاخر و ان حصول الجميع على الحقوق و المساواة في نضرهم سيحرمهم من رغد العيش حتى لو كان على حساب غيرهم و هذا ما يعمق الخطاء لان انفراج الهم سيكون على الجميع و ليس لفئه على حساب فئه .
فارجو من من يحاربون الرائ الاخر ان يحكموا عقولهم لان هذه الارض ليست لهم وحدهم بل هي ملك للجميع .
باختصار
اليوم ما يجب أن يُدرَك لدى كلّ البحرينيين أن المشترك بينهم هو الأرض فالأصل في الاشتراك هو الأرض التي أنبتت لغتهم وليس السياسة التي قد تذهب وتجيء.