انتظرت الحاج ابن خلدون بعد عودته المحبطة من الشام مفاجأة في مصر. فبسبب طول غيابه سرت شائعة عن وفاته «فتقدم للوظيفة من يقوم بها من فضلاء المالكية، وهو جمال الدين الأفغهسي، غزير الحفظ والذكاء، عفيف النفس عن التصدي لحاجات الناس، ورع في دينه، فقلدوه منتصف جُمادَى الآخرة من السنة» (التعريف، ص628).
انخلع صاحبنا من وظيفته للمرة الثالثة في سنة 803 هجرية/ 1400م وقرر بعدها الاعتكاف وكتابة مذكراته (وصيته التاريخية) وواصل في الآن الاتصال برجال الدولة وسلاطين عصره فأرسل كتاباً إلى صاحب المغرب آنذاك يوجز فيه ما دار من حوار بينه وبين تيمورلنك ويشرح له وقائع حوادث الشام الأخيرة. واشتمل الكتاب على فصل عن المغول وأصلهم كرر فيه ما أورده سابقاً فيذكر أن التتار «هم الذين خرجوا من المفازة وراء النهر، بينه وبين الصين، أعوام عشرين وستمئة (620 هجرية) مع ملكهم الشهير جنكيزخان ومَلك المشرق كله من أيدي السلجوقية ومواليهم إلى عراق العرب، وقسم الملك بين ثلاثة من بنيه وهم جقطاي وطولي ودوشي خان (...) وكان لهم أخ رابع يسمى اوكداي كبيرهم، ويسمونه الخان، ومعناه التخت، وهو بمثابة الخليفة في مُلك الإسلام (...) وافترق مُلْكهم في طوائف من أهل دولتهم، وارتفعت نقمتهم عن ملوك الشام ومصر» (التعريف، ص628). ويصل في تاريخ المغول إلى تيمورلنك ويصفه بأنه «شديد الفطنة والذكاء، كثير البحث واللجاج بما يعلم وبما لا يعلم، عمره بين الستين والسبعين» (التعريف، ص628).
لاشك في أن كتاب ابن خلدون إلى صاحب المغرب (ضاع نص الكتاب) فيه نوع من الاعتذار غير المباشر عن إقدامه على تأليف 12 كراساً لتيمورلنك يشرح فيها جغرافية المغرب وتركيبتها السكانية. وربما خاف أن تصل الأخبار إلى سلاطين تلك البلاد فيغضبون عليه فسارع إلى استباق الأخبار وأرسل كتابه الذي يشرح فيه تفاصيل اللقاء مع ملك المغول.
بغض النظر عن دوافع الاتصال اعتكف الحاج على نفسه وأخذ يسجل ما حفظه في ذاكرته وما ترسب في ذهنه من حوادث ومعلومات وآراء. ويعتبر (التعريف) آخر وثيقة سجلها نجد فيها الكثير من الرؤية الواضحة على رغم بلوغه 72 سنة من عمره كذلك رأيه الموجز في التاريخ وملخصات عن نظرياته في الجغرافيا والدولة والعصبية وهي كلها عنده عوامل زمانية ومكانية تدور في وعاء كبير اسمه العمران البشري.
لم تختلف نظريات ابن خلدون في (التعريف) عن تلك التي جمعها وابتكر نظامها وألف قانونها في (المقدمة). فرأيه في الجغرافيا لم يتعدل فهو مازال يعتمد أفكار «أهل الجغرافيا» التي لخصها في المقدمة وقسم فيها المعمور من الأرض إلى سبعة أجزاء يسمونها الأقاليم «مبتدئة من خط الاستواء بين المشرق والمغرب» وليس في جنوب خط الاستواء «عمارة إلى آخر الربع المنكشف، لإفراط الحر فيه، وهو يمنع من التكوين» كذلك ليس بعد الأقاليم في جهة الشمال عمارة (عمران) لإفراط «البرد فيها وهو مانع للتكوين أيضاً» (التعريف، ص612).
يركز صاحب المقدمة على الإقليم الرابع ويرى أنه مركز العمران وفيه تنتشر الحضارات والثقافات والبعثات (الديانات). وتختلف أجزاء الإقليم الرابع في المناخ والمعاش وكان «مبدأ هذا العمران في العالم من لدن آدم صلوات الله عليه». ويأتي على النسب والنسل ويرى أن الأخبار غير واضحة و«لا سبيل إلى اتصال الأخبار القديمة إلا بالوحي» (التعريف، ص613). ثم يأتي سريعاً على أخبار الحضارات في المشرق وفارس والعراق ومصر واليونان (الاسكندر) وغيرها إلى أن «ظهر خاتم الأنبياء محمد صلوات الله عليه وجمع العرب على كلمة الإسلام» وأمر بالجهاد فزحفوا «إلى كسرى وقيصر بعد سنتين من وفاته فانتزعوا المُلك من أيديهما، وتجاوزوا الفرس إلى الترك والروم إلى البربر والمغرب، وأصبح العالم كله منتظماً في دعوة الإسلام». بعدها يأتي على اختلاف «أهل الدين» إلى أن قامت «دولة بني أمية التي استفحل الملك والإسلام فيها، وتنافل التشيع بتشعب المذاهب (...) حتى انساق مذهب من مذاهبهم إلى محمد بن علي بن عبدالله بن عباس (...) ثم غلبوا على بني أمية، وانتزعوا المُلك من أيديهم، واستفحل ملكهم، والإسلام باستفحاله، وتعدد خلفاؤهم. ثم خامر الدولة ما يخامر الدول من الترف والراحة ففشلوا. وكثر المنازعون (...) فظهرت دولة لبني جعفر الصادق بالمغرب، وهم العبيديون (الفاطميون)، بنو عبدالله المهدي بن محمد (...) واستولوا على المغرب ومصر (...) وانقسمت الملة الإسلامية بين هذه الدول الأربع إلى المئة الرابعة (...) وأقامت الملة على هذا النمط إلى انقضاء المئة الرابعة» (التعريف، ص614 - 615).
يستفيض الحاج في تفاصيل التاريخ السياسي للديار الإسلامية فيذكر الدولة البويهية وانقراضها وقيام الدولة السلجوقية وانكفاء العرب وخسارتهم المُلك «كأن لم يكن لهم فيه نصيب، وذلك أعوام الأربعين والأربعمئة». ثم خرج الإفرنج على بقايا بني أمية في الأندلس «فانتزعوا المُلك من أيديهم واستولوا على حواضر الأندلس وأمصارها». ويذكر دولة الفاطميين في مصر والتضييق عليها وظهور الفرنجة في الشام ثم الأسرة الزنكية، وملوك صنهاجة في إفريقيا، والملثمين المرابطين بعدهم في المغرب الأقصى والأوسط، وبعدهم المصامدة الموحدين، والسلاجقة في المشرق إلى انقضاء القرن السادس وظهور جنكيزخان وبعده هولاكو ثم أولاده وصولاً إلى تيمورلنك واجتياحه الشام وذهاب صاحبنا لمقابلته من جملة الوفد بعد انسحاب صاحب مصر من دمشق. فابن خلدون يسرد تاريخ العالم في سطور يستطرد فيها من زمان إلى زمان وينتقل من مكان إلى آخر حتى يصف اللحظة التي التقى فيها أمير التتار (المغول). وبرأيه أن «أكثر أمم البشر فرقتان: العرب والترك» (التعريف، ص621) وقوة العرب هي في اجتماعهم على الدين. وقوة الترك هي في مزاحمتهم لملوك الفرس و»لا يساويهم في عصبيتهم أحد من ملوك الأرض» (التعريف، ص621). وبرأيه أن التتار (المغول) هم «من شعوب الترك» وليس في العالم أمة أوفر من العرب والترك عدداً. فالعرب في جنوب الأرض والترك في شمالها «يتناوبون المُلك في العالم، فتارة يملك العرب ويزحلون الأعاجم إلى آخر الشمال، وأخرى يزحلهم الأعاجم والترك إلى طرف الجنوب». ويعتبر ابن خلدون أن الصراع بين الشمال (الأعاجم والترك) والجنوب (العرب) كرّ وفرّ. مرة من هذا ومرة من ذاك. ويسمي الصراع بين الشمال والجنوب «سُنة الله في عباده» (التعريف، ص612).
لم يأتِ الحاج في مذكراته بإضافات نوعية جديدة على نظرياته السياسية ومعلوماته التاريخية. كل ما فعله أنه أوجزها ودمجها في مختصرات سريعة ليشرح نشوء الدولة التركية (المملوكية) التي عاصر ملكها الظاهر برقوق وابنه فرج ثم اندفاع المغول (الترك برأيه) ثانية في غزوات تدميرية جديدة للمنطقة ومعايشته لتلك الحوادث والتطورات. فابن خلدون اضطر لتكرار المعلومات لكنه كشف لنا، وهذا هو المهم، عن آخر تطورات تفكيره السياسي ووعيه التاريخي وهي في جملتها لا تختلف كثيراً عما كتبه في مقدمته وتاريخه العام.
دخل ابن خلدون سن 76 من عمره (808 هجرية/ 1405م) شهد في سنواتها الخمس الأخيرة خلعه وإبعاده عن منصب قاضي المالكية ثلاث مرات بين 804 و807 هجرية عرف خلالها الانقطاع عن العالم سببها «عزلة الشيخوخة». فالعزلة الأخيرة هي عزلة الزهد والتصوف والتعبد والإحباط الشامل.
تذكرنا فترة حياته الأخيرة بتلك الحالة التي أصابت جده في تونس حين رفض المناصب وانزوى يتعبد وقام بتأدية فريضة الحج مرتين في أقل من سنوات خمس. وما أصاب جده تكرر مع حفيده ابن خلدون على دفعتين الأولى في سن الشباب عندما انقطع عن العالم ليكتب أحد أهم المؤلفات التي عرفتها البشرية، وتشبه انقطاع الإمام أبو حامد الغزالي حين انطوى على نفسه واعتكف في المسجد الأموي ليكتب أهم مؤلفاته التي قلبت التفكير الإسلامي وأحدثت ثورة إحيائية في العلوم الدينية في نهاية القرن الخامس للهجرة. والدفعة الثانية في سن الشيخوخة حين تشبّه بجده فكانت عزلة غير منتجة إذ كرر ما قاله مع إضافات وتنويعات على نظرياته السابقة. ولاشك في أن هناك عوامل كثيرة أحبطت مشروع صاحب المقدمة وساهمت في كسر عنفوانه وكبريائه أبرزها غرق السفينة في مرسى الاسكندرية وخسارة الأهل والموجود والمولود. فكانت ضربة قضت على أحلامه وطموحاته فتحول من طالب جاه إلى طالب وظيفة تطارده ويطاردها إلى أن قضى الله أمراً كان مفعولا. ودُفن في مقابر الصوفية في القاهرة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 3122 - الخميس 24 مارس 2011م الموافق 19 ربيع الثاني 1432هـ
مواطن
لماذا لا تكتب عن وضع البحرين والاردن وتدلي برأيك
مع خالص تحياتي وشكرا