بدأت منذ ثلاثة أيام عمليات القصف لشل مواقع الديكتاتور الليبي بناء على القرار 1973 الدولي الذي صدر عن مجلس الأمن تحت الفصل السابع. فالقرار أعطى صلاحيات، بناء على طلب جامعة الدول العربية، بفرض حظر جوي واتخاذ كل التدابير اللازمة لحماية المدنيين من تهديدات الطاغية.
تأخر صدور القرار والتردد في تنفيذه فوراً إضافة إلى عدم وجود خطة مشتركة للتعامل مع القذافي أنتج فوضى من القراءات بشأن مهمات التحالف الدولي والأهداف التي يطمح إلى تحقيقها. فهناك من يلتزم بالحذافير الحرفية للقرار ويرى أن بنوده لا تنص على تغيير النظام وإسقاط القذافي. وهناك من يؤكد أن وظيفة الغطاء الجوي الدولي تقتصر على حماية الأهالي وليس حماية الثوار. وهناك من يشير إلى الطابع الدفاعي للضربات الجوية ولا يجوز تطويرها إلى حد كسر بنية سلطة الديكتاتور وتقويضها.
إسقاط الديكتاتور برأي وزير الدفاع روبرت غيتس هي مهمة الشعب الليبي ولا علاقة للتحالف الدولي بتنفيذها. لذلك يرى الوزير الأميركي أن التدخل الدولي محدود زمنياً ومشروط قانونياً ولا يجوز تخطي قواعد اللعبة التي وردت نصوصها في قرار مجلس الأمن. وأشار غيتس أن مهمة التحالف لا تنص على حماية الثوار إذا قرروا الهجوم على مواقع القذافي وقواعده للإطاحة به، فالهجوم المضاد مسئولية ليبية.
وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون تبدو أقل تحفظاً في تصريحاتها وهي تؤكد أن مهمة التحالف مفتوحة زمنياً وغير محددة بالشروط، لذلك فهي باقية حتى يرحل الديكتاتور ويتنحى عن موقعه. وفي سياق كلام الوزيرة الأميركية جاءت تصريحات الكثير من المسئولين في بريطانيا وفرنسا لتؤكد أن عمليات القصف الجوي ليست بريئة ولها وظيفة سياسية تشمل مهمات مختلفة منها مساعدة الانتفاضة على إعادة هيكلة قواتها وتأمين غطاء لتنفيذ هدفها وإقصاء القذافي من مناطق نفوذه.
القراءات المتخالفة لمهمات القرار 1973 لا تقتصر على هيكل البيان ونصه وإنما تشمل مساحة القصف ونسبته وحجمه. البعض يؤكد أن الضربات يجب أن تكون مدروسة ومحسوبة بقصد توجيه رسالة تحذير تخيف القذافي وتمنعه من استخدام الطيران ضد المدنيين. البعض يرى أن الضربات لا بد أن توجه ضد القوات البرية وبطاريات الصواريخ لإجباره على التراجع وفك الطوق عن المدن. البعض يريد أن تكون الضربات الجوية شاملة لمراكز الرصد وغرف العمليات حتى لا يعطى فرصة لإعادة ترتيب صفوفه مجدداً، والبعض يؤكد أن الهجوم يجب أن يكسر عصب النظام ما يؤدي إلى انهياره وتهاويه.
الخلافات لم تعد سرية وهي ظهرت في تباين توجهات وزير الدفاع (البنتاغون) المرنة مع تصريحات وزيرة الخارجية الصلبة التي ترفض نظرية المحافظة على قوة القذافي والإبقاء عليها حتى لا تسقط ليبيا في الفوضى وربما الحرب الأهلية القبلية - المناطقية.
المشكلة ليست لفظية وإنما تفسيرية لمعنى القصد من بند اتخاذ كافة التدابير اللازمة، فالخلاف السياسي على تنفيذ هذه الفقرة يعطي مساحة للتأويلات المتضاربة بين تيار يعتبر أن المهمة تقتضي إنهاء سلطة القذافي من خلال مساعدة الثوار جوياً على بلوغ الهدف النهائي وبين تيار يرى أن المهمة هي حماية المدنيين وليس تغيير النظام ولا مساعدة قوى الاعتراض على الوصول إلى غايتها.
الاختلاف بين التيارين يفتح باب الأزمة الليبية على مصير مجهول يتدرج على مستويات قد تؤدي إلى توليد فوضى تقوض وحدة البلاد وتدفع الناس نحو الضياع ما يعطي فرصة للديكتاتور أن يسترد نشاطه بعد حين. فالطاغية بدأ يستفيد من لعبة الوقت من خلال إصدار إعلانات متناقضة مرة يعلن قبوله بالقرار الدولي ثم يرفضه، ثم يقبل وقف إطلاق النار ثم يخرق تعهداته، ثم ينسحب من مناطق ويبدأ هجومه في أخرى. هذا التلاعب الميداني نجح نسبياً في كسب هامش من الوقت بسبب الخلاف في التعامل مع تفصيلات القرار. البعض يصر على وقف القصف إذا أوقف القذافي قصفه البري، بينما البعض الآخر يرى أن وقف النار ميدانياً ليس كافياً لحماية المدنيين من القتل، لأن الحماية تتطلب الضغط على مركز القيادة.
السؤال الآن عن مصير ليبيا في حال استمر الخلاف على تفسير القرار الدولي ونجح القذافي في الاحتفاظ بقواته مستفيداً من غموض نصوص 1973؟ هناك احتمالات كثيرة وهي في مجموعها مرهونة بمدى استعداد التحالف الدولي على تطوير ضرباته الجوية معطوفة على مدى قدرة سلطة القذافي على التحمل ومواصلة ضغوطها على الثوار.
بناء على الواقع الميداني الذي يرجح أن تتوضح صورته في الأيام المقبلة يمكن رصد خريطة طريق سياسية محكومة باحتمالين: احتفاظ القذافي بقواته أو انهياره. في الحال الأولى تصبح ليبيا عرضة للتقسيم بين الشرق والغرب والجنوب (فزان)، وفي الحال الثانية يصبح الديكتاتور في وضع صعب باعتبار أن الغطاء الدولي نجح في توفير أدوات ضغط للثوار تسمح لهم بكسر الموازين الداخلية.
الاحتمال الأسوأ هو أن تتوازن القوى المحلية وتتوزع بين الطرفين، فهذا الاحتمال السلبي يمكن أن يمد من فترة حرب الاستنزاف ما يعطي ذريعة للتحالف الدولي تسمح له بناء على القرار 1973 أن يفرض نوعاً من الحصار البحري والبري والجوي الطويل المدى بذريعة حماية المدنيين، وهذا الأمر في حال حصل تصبح ليبيا عرضة للانهيار الداخلي والتمزق إلى وحدات قبلية مناطقية على غرار المشهد الصومالي.
حتى الآن مضت ثلاثة أيام على بدء الحملة الجوية وهي مدة غير كافية للحكم على النتائج، لكن اختلاف الآراء الدولية بشأن تأويل صلاحيات ومهمات ووظائف قرار مجلس الأمن واستغلال ديكتاتور الجماهيرية تلك الثغرات لكسب المزيد من الوقت وتوسيع هامش المناورة يعطل حركة الثوار على الأرض ويضع الانتفاضة في حال دفاعية تستنزف قواها ويفقدها السيطرة الميدانية في المدى الطويل
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 3120 - الثلثاء 22 مارس 2011م الموافق 17 ربيع الثاني 1432هـ