تَثَنَّى مير حسين موسوي ليُصبح موسويان وليس واحدا. موسوي قبل الانتخابات وآخر يخصّ بعدياتها. الأول كان يُشَمُّ فيه عبَق الثورة الأول ومخزونها الكاريزمي من دمِ وحبر، والثاني غير ذلك تماما. في أقلّه رائحة السُّخَام الذي يضرب قاع القِدر أو القلب لا يَفرق.
لم تَعُد هزّة إيران الأخيرة وزرا يتحمّله أحد ويمضي، بقدر ما هي تموضع لأطراف شاءت أن تكون «نذيرة» في مُشكل قومي غائر، كلّف طهران الكثير. هي بالتأكيد ستتجاوزه (وقد بدأت) إلاّ أن الاجتياز لا يمنع من الإقرار بأن أكلافا باهظة قد دُفِعَت.
(2)
وفّرت حكومة الرئيس أحمدي نجاد لثلاثة وعشرين مليون إيراني خدمة استخدام الإنترنت. وهو في ذلك قد أتاح للإيرانيين الشباب لأن يتحوّلوا من فُتوّة تقليدية، إلى أخرى نابهة تركب موجة الاتصال بكل ما لها من علاقات متشعّبة وخصوصا تلك المتعلقة بالتحكّم الآلي أو (السيبرنيطيقي).
اليوم يُشْتَمُ الرئيس أحمدي نجاد من حيث قدّم وأعطى. الإيرانيون من أنصار المُرشّح المهزوم مير حسين موسوي في الداخل يتواصلون مع الخارج عبر خدمات وفّرها لهم رئيس لا يُؤيّدونه الساعة. هو ليس جفاء بقدر ما هو ضريبة مُتوقّعة.
كثير من هؤلاء الإيرانيين (وهم في الأغلب من أصحاب الذوات) يُبشّرون بظلم مُدّعى واقع عليهم، يتمايل ما بين الحقيقة والخيال. فهو يبقى ضمن حدود الحقيقة حين ننظر إليه في إيران، لكنه ينفلت إلى الخيال حين ننظر إليه في أوروبا والولايات المتحدة.
مناكِفو نجاد، وفي احترابهم مع «الدكتاتور» يتدثّرون بغريمه موسوي وكأنه «المُسَيّا». وهم بذلك يتورّطون في ذات التصنيم الذي يعيبونه على أنصار أحمدي نجاد من الفلاحين والفقراء وسكّان الضواحي. وعندما يضجّ هؤلاء من تضييق أحمدي نجاد على حرية وسائل التعبير، يجهرون بذلك عبر ذات الوسائل المُغيّبة (مثلما يقولون) على يد خصمهم، والتي من خلالها استطاعوا نقده وشتمه أكثر من 320 ألف مرة طيلة الفترة التي سبقت الانتخابات. هم بذلك يجمعون ما عجِز عن جمعه فلاسفة اليونان، الشيء واللاشيء، والوجود والعدم.
(3)
موقع موسوي على شبكة الإنترنت لازال يهرف بما يعرف ولا يعرف في آن. من خلاله كان يُعلَن عن المسيرات التي يدعو إليها، ومن خلاله يُعلَن عن إلغائها أيضا. ومن على زوايا موقعه يتحدّى الدولة الإيرانية ودستورها ومؤسساتها ويدعو إلى احترام القانون في نفس الوقت. وهو في ذلك يعيد إنتاج الحيرة الفلسفية في النقائض كذلك.
صحيفة المُرشّح الآخر مهدي كروبي المُسمّاة بـ»اعتماد» هي الأخرى تصدر ناطقة باسم الجوقة الخاسرة. لم يُوقفها سعيد مرتضوي قاضي المطبوعات في إيران، كما لم يُوقِف لا صحيفة نوروز ولا روز ولا آفتاب ولا أمروز. وهي جميعها صحف إصلاحية قالت وتقول في نجاد ما لم يقله مالكٌ في الخمر.
(4)
ضمن هذا المشهد السياسي المضطرب يُدرك نظام الحكم في إيران أنه لا يملك خيارا اليوم سوى سحب تصنيفه البريء لجبهة اليسار الديني (أو الإصلاحيين). لأن الأحداث بيّنت أنهم لا يتّفقون في التفاصيل بل في الكُلّيّات أيضا.
في السابق كان الحكم يقول بأن محمد خاتمي ومهدي كروبي وموسوي خوئينيها وأكبر محتشمي ورسول منتجب نيا وموسوي لاري ومير حسين موسوي يختلفون عن إصلاحيي جبهة المشاركة المتطرفة من محسن آرمين ومحمد رضا خاتمي وبهزاد نبوي وغيرهم.
اليوم لا مجال للفرز، فما فعله الإصلاحيون «المعتدلون» اليوم كان أشدّ على إيران «سياسيا» و»أمنيا» مما كانت تصنعه القيادات الشّابة المتطرفة في جبهة المشاركة منذ العام 1997 ولغاية العام 2004 وهو تاريخ ربيعها في إيران.
(5)
من حقّ خصوم إيران اليوم أن يقيموا حفلة «رقص فلامنكو» على الطريقة الإسبانية بمعيّة العديد من إصلاحيي إيران، الذين غاب لديهم أيّ هدف وطني يستحقّ التضحية ما خلا إقلاق إيران وسياساتها دوليا. وهكذا حصل.
توتّر مع الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين والهولنديين والسويديين والاستراليين. واستنهاض إعلامي دولي غير مسبوق من كُبريات القنوات الفضائية والصحف المُترسملة. إنّه ثمن جيد في حسابات السياسة.
كلّ الأشياء تُصبح متناولة ومباحة وميسورة لدى الإمبرياليين إذا ما تعلّق الأمر بخياراتهم في إزعاج خصمهم. ليس بالضرورة أن ينجحوا في إيصال الوجع إلى رأسه أو خاصرته، لكنهم يدفعون بذلك ويُنفقون من أجله بدون بخل.
(6)
ثوريّة مير حسين موسوي التي سربل بها إيران طيلة عقد الثمانينيات لم تُسعفه لإدراك ذلك. وراديكاليّة مهدي كروبي التي كلما أقعَى في جلوسه عليها في مواسم الحج الماضية عندما كان أميرا على البعثة لم تهبه ما يكفي لفهم ذلك أيضا.
رَكَبَتْهُما جماعات لا يهمّها أفازَ هو أم غيره، فالكلّ عندها إلى الجحيم ما دام خمينيا. هي لا تُريد للنظام الذي ينتمي إليه سوى التعطّط والكسر. فما استنبت عليه لا يُمكنه أن يُنْسَغَ في جلد آخر.
(7)
بُحّ صوت بول غريغ روبرتس (وهو من نخاع الريغانية) عندما قال «إننا نعلم بأن الولايات المتحدة تموّل منظمات إرهابية داخل إيران مسئولة عن التفجيرات وأعمال العنف الأخرى، وهي الآن تستعمل موسوي، ومن المرجح أن تكون تلك المنظمات أيضا مسئولة عن حرق الحافلات وأعمال العنف الأخرى التي وقعت خلال التظاهرات في طهران». لكن لم يسمعه أحد من الإصلاحيين.
ولم يُشنّف أحد بسمعه لما كان يقوله كينيث كاتزمان الذي كَتَبَ قبل الانتخابات بأن «هناك حديث عن ثورة خضراء، وتنظيم مُسبق لتظاهرات قبيل الانتخابات، وإعلان النتائج، وأن تلك التظاهرات كانت معدّة سلفا للادّعاء أنها تجري احتجاجا على سرقة الانتخابات لمصلحة نجاد».
وأن «الوقفية القومية لنشر الديموقراطية (نيد) التابعة للحكومة الأميركية، والتي تعمل على نشر الديموقراطية في إيران، موّلت منظمات غير حكومية خارج إيران ترتبط بعلاقات قوية مع مجموعات موسوي». (راجع ما كتبه محمد سعيد بعنوان «الوصفة الأميركيّة لتدجين طهران»).
(8)
كثرة الضجيج لم يجعل هذين الرجلين (موسوي وكرّوبي) لأن يسمعا ما كان يقوله أيضا أستاذ علوم الإنسان في جامعة كونكورديا الكندية ماكسيميلان فورت، والخبير في إعلام الشبكات الاجتماعية بأن ما يحدث «يُسلّط الضوء على التفكير الاستعماري وعقلية الغزو الذهني من الباطن، وتلك عبقرية هذه التجربة الملتوية».
كان الجميع يُحذّر من أن «مناقشة انتخابات إيران على تويتر يسيطر عليها مستخدمون أميركيون، لا إيرانيون. ويكتب هؤلاء من منطلق أميركي جيوسياسي، مستخدمين شعارات أميركية استعمارية حول الحرية والديموقراطية».
وأن «الإسرائيليين من أكثر مستخدمي تويتر، ولديهم مصلحة في السيطرة على النقاش لخدمة مصلحة «إسرائيل»، كما يفعل الأميركيون لمصلحة دولتهم، وأنه وقبل إجراء الانتخابات سجل موفر التحليلات (سيزموس) أن 51.3 في المئة من رسائل تويتر مصدرها إيران، مقابل 27 بالمئة من خارجها.
أما أثناء المظاهرات فإن 40.3 بالمئة من مستخدمي تويتر (المشاركين بمداخلات حول ما يجري في طهران) هم من خارج إيران، و 35.7 في المئة مجهولي الهوية، مقابل 23.8 في المئة من داخلها. (راجع ما كتبته أميرة هويدي تحت عنوان «تويتر بدلا من الخيار العسكري على إيران»؟).
(9)
ما يُعرف عن السياسيين أنهم قادرون على التوحّد أثناء الأزمات، وخصوصا في إيران المُشبّعة بالقومية الفارسية (على الأقل لدى الإصلاحيين) إلاّ أن ذلك لم يحصل لحدّ الآن لدى إصلاحيي إيران الذي ما فتئوا وهم يتحدّثون عن قومية فارسية.
وحتى كرّوبي الذي عاب على أحمدي نجاد حضوره مؤتمرا لدول الخليج العربية وخلفه شارة كبيرة ممهورة بعبارة «الخليج العربي» لم يقل ما يُحاكي قوميته الفاقعة تلك عندما تحدّثت وتدخلت أوروبا والولايات المتحدة في أحداث طهران.
اليوم تخطّى الأمر موضوع الانتخابات ونزاهتها. فالحال وصل بالجميع إلى حافّة الأمن القومي لإيران. حينها لا أظنّ أن أحدا من السياسيين يُفضّل فوزا في انتخابات على حساب خسارة لبلاده في الخارج.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2488 - الإثنين 29 يونيو 2009م الموافق 06 رجب 1430هـ