قدر دول شمال إفريقيا أن تكون في الآونة الأخيرة سباقة إلى مبادرات التغيير العربي. فكما خرجت من تونس أولى شرارات الثورة التي امتدت إلى مصر وباقي البلدان العربية، خرجت من المغرب أولى محاولات الاستجابة السلمية لمطالب الشباب. وخرج العاهل المغربي محمد السادس بحزمة من الوعود المبشرة بتعديلات دستورية قال عنها المراقبون «إنها شاملة». وعهد الملك بلجنة إعداد الاقتراحات إلى «فقيه» في القانون الدستوري، وتضم في عضويتها عددا من الشخصيات التي تعود المغاربة على عضويتها لعدد من المؤسسات المقربة من دوائر السلطة. فهل يتجه المغرب فعلا بعد هذه الخطوات إلى تشكيل الاستثناء العربي بعد خطاب العاهل المغربي؟
الخطاب الذي تابعه المغاربة باهتمام شديد نص على توسيع صلاحيات الوزير الأول، وضرورة توسيع الحريات وضمان استقلالية القضاء والفصل بين السلطات. وكما العادة تلقت الطبقة السياسية المغربية التقليدية الخطاب بالتهليل والإشادة وركز الإعلام العمومي على ردود فعل الأحزاب وأمنائها العامين. وبالمقابل أعطت الوعود زخما كبيرا للشارع الشبابي المغربي الذي خرج في أكثر من مدينة للإعلان عن استمرار تشبثه بمطالب لم تتطرق لها الوعود الملكية. مطالب واجهتها السلطات المغربية بحزم كبير بل بعنف وصفته وسائل إعلام غير رسمية بـ «غير المبرر» خاصة في الدار البيضاء كبرى الحواضر المغربية.
ما بين المهللين للوعود بالتعديلات والمتشبثين بتحقيق كافة المطالب، ينبري طرف ثالث مازال يردد مقولة الاستثناء المغربي من موجة التغيير التي تجتاح العالم العربي من البحرين شرقا إلى موريتانيا غربا. رد الشباب المغربي على هذه المقولات منذ 20 فبراير/ شباط 2011 حين انطلقت أولى الحركات الشبابية بالنزول للشارع للتظاهر في أهم ساحات المدن المغربية. وأثبت الواقع أن الشارع المغربي لا يختلف عما يموج في كل الشوارع العربية. يتعلق الأمر بحركية مجتمعية أصيلة لكنها متأثرة بمحيط عربي وصلته موجة الديمقراطية متأخرة. في شوارع الرباط العاصمة كما في ساحات مدينة الدار البيضاء الشريان الاقتصادي للمغرب وصولا إلى أصغر المدن والبلدات، خرج الشباب بشعارات تجاوزت بكثير مطالب الأحزاب التقليدية المعارضة.
في إحدى تظاهرات الدار البيضاء لافتة تحملها طفلة «كفى من سرقة خيرات بلادي» وغير بعيد عنها انتصبت لافتة مكتوبة بخط مغربي خلاب «الشعب يريد إسقاط الفساد». شاب آخر يرتدي قميصا رياضيا يصدح بأعلى صوته «عليك الأمان عليك الأمان… لا حكومة لا برلمان». وبلغة شكسبير عبرت فتاة متحجبة على لوحة بلاستيكية MAKHZEN GO OUT. وحضرت لغة موليير أيضا في لوحة كارتونية كتب عليها ما ترجمته «حكومة الفاسي… كفى».
هكذا بدت مظاهرات الشباب المغربي المليئة بالدلالات. وبكل لغات العالم خرجوا إلى الشوارع في مظاهرات سلمية ليقولوا للمسئولين وللعالم «لسنا خارج السياق السياسي العربي». وفي المسيرات كما في الشعارات المرفوعة وحدة قل نظيرها في المظاهرات العديدة التي تعود المغاربة على الخروج فيها مفادها «نريد التغيير».
قبل حوالي عشر سنوات وصل محمد السادس إلى الحكم. بث الملك الشاب في المجتمع المغربي حركية تعززت بمجموعة من المبادرات الإصلاحية. وراج في المغرب خطاب التغيير. من ملك الفقراء إلى المفهوم الجديد للسلطة وصولا إلى مبادرات التنمية البشرية ومرورا بمحاولات تصفية الماضي الأليم لفترة الملك الراحل الحسن الثاني. ترافق ذلك كله مع إتاحة الفرصة لهامش أكبر من حرية التعبير والصحافة.
ظلت هذه المبادرات عنوانا لمغرب يريد أن يكون جديدا. لكن وبعد أكثر من عشر سنوات عادت الرتابة لتهيمن على الحياة السياسية المغربية. خلال العشر سنوات الأخيرة وصل جزء من المعارضة التقليدية إلى الحكم وتقلد الاشتراكي عبدالرحمن اليوسفي ما سمي بحكومة التناوب. استبشر المغاربة تغييرا في حياتهم السياسية والاقتصادية. لكن المعارضين السابقين ضاعوا في متاهات السلطة وجني الامتيازات وغيرها من دهاليز النسق السياسي المغربي. وغادر الوزير الأول المغربي آنذاك عبدالرحمن اليوسفي سفينة السياسة محتجا على جيوب المقاومة التي كان جزء كبير منها داخل حزبه. استسلم الرجل لصمت مريب حتى الآن. وضاعت فصول كثيرة من أسرار الحياة السياسية المغربية.
وفي المقابل تراجعت شعبية الأحزاب تحت وقع الضربات الموجعة ومحاولات ترويضها. وحتى النقابات التي شكلت صمام الأمان للمحرومين في فترات مهمة من التاريخ المغربي اندمجت في لعبة التنازلات وصارت تحركاتها مضبوطة على إيقاعات ما يطلبه منها «أصحاب الحال».
انزوى جزء كبير من المغاربة بعيدا عن التنظيمات التقليدية. ولم يعد يثق حتى في الحركات الإسلامية سواء المنخرطة في النسق السياسي أو الرافضة. لأنها وبكل بساطة فضلت التعامل بمصلحية مع مطالب الناس. فالعدالة والتنمية الممثل في البرلمان ينحني في كل مرة لعاصفة من الاتهامات الموجهة له والشاهرة دوما ورقة «المسئولية المعنوية عن الإرهاب»، فيما تعيش حركة العدل والإحسان المحظورة حالة من السكون وتفضل عمليات صغيرة من الكر والفر ونوعا من التواطؤ الصامت مع السلطة المغربية في انتظار ما ستسفر عنه مرحلة ما بعد زعيمها المتقدم في السن عبدالسلام ياسين.
في العام 2007 وجه المغاربة تحذيرا شديد اللهجة للقائمين على الحكم. ووصلت نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية إلى أقل من ثلاثين في المئة، رغم كل الحملات الإعلامية الضخمة والأموال المصروفة لدفع المواطنين إلى الانخراط في العملية السياسية. دعا الملك نفسه المواطنين بصريح العبارة إلى الانخراط في العمل السياسي. وكانت النتيجة أضعف نسبة للمشاركة.
ما يجري في المغرب من حراك مجتمعي وسياسي يقوده الشباب وفعاليات سياسية محبطة من الفعل السياسي العدمي والمغشوش حقيقة يجب التعامل معها بجدية. لقد صار العالم بالفعل قرية صغيرة وانتهت أسطورة الشباب غير المسيس. على الفيسبوك وعلى التويتر وعلى كل الشبكات الاجتماعية يمكن للمتشكيكن التأكد من هذه الحقيقة. وفي الفيديوهات المبثوثة من قبل الشباب رسائل واضحة تقول لأصحاب القرار: إن الديمقراطية والحرية والتداول الحقيقي على السلطة مطلب لا يمكن التنازل عنه. رسائل لا يبدو أنها تصل بوضوح إلى القائمين على الأمر.
ولا يبدو أن المسئولين المغاربة قد استفادوا من الدرسين التونسي والمصري والليبي. ففي لقاء عابر مع أحد المقربين من دوائر القرار أجابني حين استفسرته عن الوضع في المغرب «نحن مختلفون عن هذه البلدان، دشن المغرب إصلاحات عميقة في عدد من الميادين. ودرجة الاحتقان في المغرب لم تصل بعد إلى حد الانفجار... الوضع عموما تحت السيطرة». تذكر هذه التحليلات بالقهقهات الساخرة لجمال مبارك حينما طولب منه محاورة شباب الفيسبوك. وبتصريحات المسئولين المصريين وهم يحاولون وضع حدود فارقة بين ما يقع هنا وما يقع هناك. والنتيجة يعرفها الجميع.
فعلا دشن المغرب منذ عشر سنوات إصلاحات كبرى. لكنها تظل لحد الآن على مستوى الشعارات. لايزال منطق الريع يهيمن على كل شيء. في الاقتصاد وفي السياسة وفي الاجتماع. وللريع المغربي خصوصيته. قد يكون الريع في تعريفه العام هو تفويت الاستفادة من مصالح خاصة دون جهد مبذول. لكنه في المغرب يمس حتى الاسم العائلي. ويكفي أن يكون الشخص حاملا لاسم عائلي معين لتنفتح أمامه كل الدروب المغلقة وتتيسر أمامه كل المعوقات والمساطر البيروقراطية وحتى المناصب السامية.
إنه غيض من فيض المطالب التي رفعها شباب الفيسبوك الذين خرجوا مطالبين بسقوط الفساد بكل أشكاله. وهذا ما يفسر الشراسة التي هاجم بها المحتجون عائلات بعينها تهيمن مع أفراد عائلاتها على أغلب المؤسسات. بل قارن بعض المحتجين بين الوضع في المغرب ووضع الهيمنة التي كانت عليه تونس تحت وطأة ليلى الطرابلسي عقيلة الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي وعائلتها.
إن المتابع للجدل الإعلامي الصاخب الذي صاحب مجريات ثورتي تونس ومصر لابد أن يلاحظ خطابين اثنين: خطاب أول حاول التحجيم من ما يقع في هذه البلدان ويدافع باستماتة عن خصوصية المغرب وحسم المغاربة مع نموذج الحكم الملائم لهم. وخطاب ثان يحذر بقوة مما يقع ويحمل شعار «كل الظروف الموضوعية السائدة هناك تعتمل هنا». وما بين الخطابين لم نسمع من الجهاز الرسمي غير محاولات ترميمية لم ترق لحد الآن إلى مستوى الفعالية المطلوبة من قبيل تفعيل المجلس الاقتصادي والاجتماعي وتغيير في المؤسسة المفترض متابعتها للملفات الحقوقية.
على عاتق المسئولين مهام شاقة بعد ما وقع في تونس ومصر، خاصة وأن المغرب شكل أو على الأقل حاول تقديم نفسه لمدة طويلة كدولة ناشئة تحظى ديمقراطيا بوضع متقدم. حريات أكثر وانفتاح سياسي معقول وهامش من الصحافة المستقلة مهما انحسر في السنوات الأخيرة فيظل متقدما على العديد من الدول العربية. غير أن تصنيف المغرب، في حالة استمرار الوضع على ما هو عليه، صار مهددا بعد التطورات الجارية في كل من تونس ومصر حيث يتجه الشعب نحو الإمساك الحقيقي بسلطة القرار.
تثبت الأحداث الجارية في العالم العربي حاليا أن الثورات العربية اتخذت لحد الآن نموذجين. نموذج تمثله تونس ومصر حيث غادر الرئيسان تحت ضغط المؤسسة العسكرية. فيما يتمثل النموذج الثاني في الدموية التي يواجه بها القذافي الشعب المطالب بالتغيير. ويبدو أن اليمن يتجه نحو إعادة إنتاج السيناريو الليبي. فهل ينتج المغرب نموذجا لا هو بالدموي ولا هو بالخاضع لضغط المؤسسة العسكرية. الجواب رهين بتجاوز المقاربات الكلاسيكية التي ربطت ما يجري بنظرية المؤامرة والتدخل الخارجي والترديد المستمر لأسطوانات الخصوصية المغربية
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 3118 - الأحد 20 مارس 2011م الموافق 15 ربيع الثاني 1432هـ