في نهاية يونيو/ حزيران الجاري تبدأ قوات الاحتلال الأميركية بالانسحاب من المدن والقصبات العراقية تمهيدا للانتشار وإعادة التموضع العسكري في بلاد الرافدين. إعادة التموضع ستؤدي إلى تشكيل فراغات أمنية قد تساهم في توليد منافسات بين القوى والميليشيات المحلية على تعبئة المساحات الجغرافية وتطبيعها في هيكلية فيدرالية طائفية ومذهبية وأقوامية.
التنافس بين مراكز القوى في الداخل العراقي يشكل خطوة سياسية في إطار التوتر الأمني يمكن أن يؤدي إلى نشوب نزاعات ذات طابع أهلي إلا أنه في النهاية سيستقر مؤقتا في دوائر جغرافية ضيقه بانتظار التحولات التي أخذت تعصف بمنطقة «الشرق الأوسط».
إعادة التموضع الأميركي في العراق يعطي إشارة عن بدء ظهور متغيرات في خريطة التحالفات السياسية في المنطقة في اعتبار أن الاحتلال الذي بدأ في العام 2003 استنفد وظائفه ولم يعد يمتلك تلك الأوراق القوية التي استخدمها خلال السنوات الست لتقويض دول «الشرق الأوسط» ومنظومة علاقاتها الإقليمية. وفشل «تيار المحافظين الجدد» في استكمال مشروع التقويض بدأ أساسا في واشنطن حين دخل الرئيس باراك أوباما البيت الأبيض.
خطة الانسحاب والانتشار وإعادة التموضع وافق عليها جورج بوش ضمن مواصفات سياسية مشروطة بفترات ومهل زمنية قبل مغادرته واشنطن إلا أن الخطة أعيد تهذيبها وتشذيبها وترتيبها بعد إمساك أوباما بمقاليد السلطة. وإعادة النظر في مواعيد ومواقيت الخطة الأميركية كان لابد منه حتى تتكيف مع استراتيجية الحزب الديمقراطي ورؤيته العامة لإدارة الأزمات في «الشرق الأوسط الكبير» من باكستان إلى لبنان وفلسطين.
الاختلاف في إدارة الأزمات بدأت تباشيره تظهر في باكستان حين أسقطت واشنطن خطة تفكيك الدولة وتشطيرها إلى أقاليم وضع «تيار المحافظين الجدد» خريطتها السياسية ثم اتجهت نحو تبني مشروع مضاد يعزز الدولة في حربها ضد التطرف.
المثال الباكستاني شكل إشارة باتجاه التغيير الذي وعد به أوباما جمهوره الأميركي. وجاء خطاب أوباما في القاهرة ليؤكد عزم واشنطن وتخليها عن مشروع الفتنة الطائفية المذهبية السنية - الشيعية وطالب الدول العربية مساعدته في سياسة التغيير.
خطاب أوباما في القاهرة أعطى إشارة ثانية إلى جدية واشنطن في موضوع التغيير بشرط أن تتوافر العوامل الإقليمية القادرة على تعطيل مشروعات التقسيم السياسي والتشطير الطائفي والمذهبي.
إعادة التموضع الأميركي في العراق ليست خطوة منفردة ومنعزلة عن فضاءات «الشرق الأوسط» وأزماته المتنقلة وإنما هي حركة عسكرية انسحابية ترمز إلى موضوعات سياسية شديدة الأهمية تتصل مباشرة باستعداد واشنطن للدخول في خطة التطبيع والتعامل العقلاني مع الأمر الواقع.
المنطقة الآن تمر في طور انتقالي يحتاج إلى فترة زمنية للعبور السياسي من مرحلة التقويض إلى مرحلة إعادة التموضع والتطبيع على المستويين الدولي والإقليمي. دمشق مثلا بدأت حركة سياسية باتجاه إعادة التموضع تمهيدا للتطبيع دوليا وإقليميا. فالقيادة السياسية السورية اتجهت منذ نصف سنة تقريبا إلى تطبيع علاقاتها الدبلوماسية مع لبنان، وتطبيع علاقاتها مع الرياض وتحاول الآن تطبيعها مع القاهرة. وتوجه القيادة الدمشقية إلى تحسين علاقاتها مع السعودية ومصر جاء في إطار تطبيع مواقعها الدبلوماسية مع فرنسا والولايات المتحدة.
في فلسطين (الضفة وغزة) بدأت الساحة تشهد استعدادات لإعادة التموضع من خلال تهذيب خطاب «حماس» الأيديولوجي ودفعه باتجاه التطبيع السياسي مع خطاب «فتح» والسلطة الفلسطينية في رام الله.
في لبنان أيضا بدأت ساحة بلاد الأرز تشهد حركة إعادة تموضع القوى السياسية في ضوء نتائج الانتخابات النيابية. وإعادة التموضع أخذت تثمر عن اتصالات مباشرة بين فريق 8 آذار وفريق 14 آذار. والتطبيع بين الطرفين ظهر في اللقاءات المصورة بين أمين عام حزب الله السيدحسن نصرالله ورئيس «اللقاء الديمقراطي» وليد جنبلاط ورئيس الأكثرية النيابية (كتلة لبنان أولا) سعد الحريري.
إعادة التموضع في لبنان مهمة للغاية لأنها تؤشر إلى متغيرات إقليمية ودولية أخذت تضغط على بلاد الأرز باتجاه القبول بتسوية مؤقتة تعيد إنتاج السلطة السياسية وفق معادلة نتائج الانتخابات النيابية. ولبنان بوصفه مرآة تعكس منظومة العلاقات الإقليمية يشكل إشارة مهمة تدل على وجود توجه دولي لتطبيع العلاقات مع دمشق. وهذا التوجه الدولي - الإقليمي ظهر من خلال تجديد انتخاب نبيه بري رئيسا للبرلمان مقابل تكليف الحريري بتشكيل حكومة وحدة وطنية تجمع أطياف 8 و14 آذار في وزارة مشتركة.
إعادة التموضع تسبق عادة حركة التطبيع. وهذا ما ظهر على خطوط التماس في خريطة «الشرق الأوسط». فهناك تموضعات تسبق التطبيع السياسي بين دمشق والقاهرة، الرياض ودمشق، بيروت ودمشق، وبين «حماس» و«فتح» و8 آذار و14 آذار وغيرها من إشارات بعيدة في باكستان أو قريبة في العراق.
إعادة التموضع في بلاد الرافدين تشكل نهاية فصل في الحرب وبداية فصل أخذ يتجه نحو تشجيع تطبيع العلاقات بين بغداد والعواصم العربية حتى تستطيع واشنطن إقفال الملف العراقي بشكل هادئ وسلمي في نهاية العام 2010.
كل القوى الإقليمية كما تظهرها خطوات إعادة التموضع اتخذت قرارات بالتوجه نحو تطبيع العلاقات السياسية وهندسة الخطابات الايديولوجية وضبطها تحت سقف دولي يدفع نحو ترتيب تسوية معقولة ترفض «إسرائيل» التجاوب مع شروطها العادلة.
إلى «إسرائيل» هناك إيران بوصفها تشكل ذاك اللاعب القوي في المعادلة الإقليمية وتوازن القوى مع المحيط الجغرافي. طهران حتى الآن لاتزال تعيش لحظة تخبط بعد تلك الصدمة السياسية التي تلقتها من الداخل في ضوء نتائج الانتخابات الرئاسية وما قيل عنها من اتهامات بالتلاعب والمخالفات والتوجيهات. ولاشك في أن المنطقة تنتظر الجمهورية الإسلامية حتى تستيقظ من «الدوار السياسي» وتستقر على قاعدة من التوازن تستفيد من دروس التجربة وخلاصاتها.
خطاب إيران المتوقع صدوره بعد الخروج من أزمة الثقة وتضعضع علاقات السلطة بالشارع وانعكاسها على أجنحة الدولة مهم للغاية لأنه سيكشف عن مدى استعداد طهران لإعادة التموضع والإقلاع عن «التصريحات الطاووسية» التي ارتدت عليها إلى الداخل، والبدء في الانخراط في مجرى تطبيع العلاقات مع دول الجوار العربية والمسلمة والقبول بسياسة التفاوض المباشر و«اليد الممدودة» التي أشار إليها أوباما في الكثير من الخطابات والرسائل.
إعادة التموضع التي يشهدها «الشرق الأوسط» تشكل مجتمعة ذاك المفتاح السياسي لإدارة أزمات المنطقة. والتموضع العسكري الذي ستبدأ القوات الأميركية بتنفيذه بعد يومين يرسل إشارة سياسية باتجاه الدفع نحو التطبيع لا التقويض. مشروع التقويض أوقف رسميا منذ دخول أوباما البيت الأبيض في 20 يناير/ كانون الثاني الماضي وبدأت تحل مكانه خطوات تطبيع... إلا أن سياسة التطبيع لا تعني دائما التطابق في الآراء ووجهات النظر بل هي أقرب إلى التعايش والتساكن في ظل تسويات مؤقتة.
المشهد اللبناني المعطوف بتعقيداته الأهلية والإقليمية على المشهد الفلسطيني وتضاريسه العربية يشكلان درجة تمهيدية مهمة في رؤية زاوية الانعطافة الأميركية من طور مشروع التقويض إلى خطوات التطبيع.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2488 - الإثنين 29 يونيو 2009م الموافق 06 رجب 1430هـ