العدد 3116 - الجمعة 18 مارس 2011م الموافق 13 ربيع الثاني 1432هـ

نِصْفُ أزمتنا تنتهي مِن هُنا

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

أقضي أيامي هذه كئِيباً. ليس ذلك انهزام مني أمام الأحداث أبداً؛ وإنما هي حالة يفرضها ضغط اللحظة على الجميع. طيلة شَهر مضى سَالَ دمٌ غزيزٌ عزيزٌ في هذا البلد. وجُرِحَ المئات في أجسادهم ومشاعرهم وهو الأكثر وَقعاً على النفوس. كُلِمَت العوائل والبيوت وتنَادت الأمّهات نحيباً على أبنائها. واستثِيرت غرائز الطوائف على أيدي أعداء هذا البلد حتى تقاتل البعض صَدراً بصَدر. واستقال وجهاء ومسئولون، حتى أصبحت الحالة الميثاقيّة (والقاضية بتمثّل المجموع الوطني في الدولة) محلّ نظر حقيقي.

بالتأكيد لم يكن الأمر يحتاج إلى كلّ تلك الخسائر التي أرجعت البحرين عشرات السنين إلى الوراء. لكن الأمر قد حصل. وحصوله لا يعني أنه أصبح صورة من الماضي فقط، وإنما هي لحظة يجب أن تُحاكم قانونياً وشعبياً من الناس وعلى الناس الذين تورّطوا في إيذاء أنفسهم بأنفسهم. وإذا ما هُم قرَّروا ذلك، صار من الضروري أن يُعيدوا إدراك الأشياء وأثمانها من جديد. فالذي كان ثمنه بقنطار في السابق صار ثمنه الآن بدينار أو أكثر بأضعاف. والذي كان وزنه بمثقال ذرَّة صار الآن بوزن الجرَّة. السِّلم الأهلي، الدماء، التقديرات السياسية، الحقوق، الإرادات، الأخلاق، كل أثمانها قد تغيَّرت، بل وصارت مساواتها بحالها السابق انتقاص لها وللناس.

في كلّ ما جرى، ما مِن شيء يُؤلمني أكثر من خِصام الناس واختلافهم، أو بمعنى أدق مسألة السِّلم الأهلي. أن يتأفّف الستراويون من زيارة الرفاع، وأن يتمنّع الحِدِّيُّون من الذهاب إلى سماهيج، وأن تصُدَّ لطيفة بوجهها عن زهرة، وأن يُشِيحَ جعفرٌ بوجهه عن خالد. أما بقيّة الأمور السياسية التي لا دَخلَ لها بالقلب والمشاعر والنظرة إلى الأغيار كما هو الحال بالنسبة للقضايا الاجتماعية فأمرها يسير. فالسياسة هي أوراق وأقلام وحقوق وتحالفات وطاولة للنقاش يُمكن للصَّداقة فيها أن تتحوّل إلى عداوة بسبب المصالح، وكذلك العكس. هذا ما يجب أن يعِيه البحرينيون جميعهم حتى وإن أُقحِمُوا فيها عنوة وبخبث الخبيثيين.

أكثر الأمور إيلاماً أن يضحك أحدهم على رجل وهو في مصابه يَنُوء. بعضهم (ويا لحرقة القلب) فَعَلَ ذلك حقاً وفي البحرين، لكن ما يُريحني في الأمر ويُطمئنني أن أؤلئك ليسوا ببحرينيين أبداً حتى ولو امتلكوا هويَّات تثبِت لهم ذلك. بل هم ليسوا ببشر حتى ولو كانت لهم أعيُن وشِفَاهٌ ولسان ناطق. والأكثر أنهم ليسوا بأصحاب دين حتى ولو ترنّموا بآيات الله المُحكمات أو المتشابهات.

فالبحرينيون على بعضهم مُتوادّون رُحماء، ليس آخرها ما جرى في عراد من العضو البلدي علي المُقلة تجاه شباب دائرته من الطائفة الشيعية الكريمة، وفي منطقة السرايا من السَّيِّدين العلوي وعاشور تجاه أبناء تلك المنطقة وهم من الطائفة السُّنيَّة الكريمة، وفي خامسة المُحرق من النائب البرلماني عيسى الكوهجي تجاه أبناء دائرته وهم من الطائفة الشيعية الكريمة. ومن السيد الغريفي والنائب المزعل في جامعة البحرين تجاه الطلبة «جميعهم بلا مذاهب» والنائب البرلماني عدنان المالكي تجاه أبناء دائرته «جميعهم بلا مذاهب» دون تمييز أو فرز أو تقسيم طائفي. وقد شَهِدَ على مَنْ شَهَد.

والبشر يتراحمون فيما بينهم بالفطرة مهما اختلفت أديانهم وأذواقهم. ألَم تقِف المواطنة الأميركية راشيل كوري مُدافعة عن الفلسطينيين بجسدها، أوَلَم يقف المخرج الهولندي اليهودي جورج سلويتسر مُدافِعاً هو الآخر عن الفلسطينيين وأطفالهم، أو البروفيسور الأميركي اليهودي نورمان فينكلستين حين دافع عن اللبنانيين بوجه أولمرت وآلته الحربية العدوانية خلال صيف العام 2006. هذه فطرة لا يُمكن أن تموت في البشر حتى ولو باعدتها الأديان؛ فالبشر يقودهم إلى بعضهم البعض إنسانيتهم وميكانيزمات تكوينهم الطبيعي.

اسألوا العراقيين كيف قضوا على غرائزهم الطائفية بعد أن أشعلها أعداؤهم ممن عبروا الحدود والمحيطات. لقد أجهزوا عليها بأيديهم وداسوا عليها بأرجلهم. قاموا بخنقها حتى اسْوَدَّ وجهها. أذابوها عندما قام أحد أفراد عشائر العزّة السُّنّية بالتصدّي لأحد الانتحاريين المُزَنَّرِيْن بحزام ناسف وهو يَهِمّ بتفجير نفسه وسط حشد من الشِّيعة فأنقذ المئات منهم وظَفِرَ هو بالشهادة. أنهكُوا الطائفية عندما قامت العشائر الشِّيعية بالتصدِّي بأجسادها إلى الميليشيات المسلحة في حي الفضل حتى أجهزوا عليهم وأنقذوا مَنْ في ذلك الحي.

هذه تجارب التاريخ أمامنا. والتاريخ صنعه حِراك البشر لكي نقرأه وندرك أحداثه ونستفيد منها في حاضرنا لكي نقوم نحن بإكمال المسيرة في صناعة تاريخ لا يُكرّر أخطاء ما سبقه، وإنما يُكملها بأكثر الأحداث نضَارَة ونضجاً. فمِنَ المُخجِل أن يتعثّر المرء بالحجر نفسه مرتين

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3116 - الجمعة 18 مارس 2011م الموافق 13 ربيع الثاني 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 13 | 11:30 م

      عبد علي عباس البصري

      وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم.....وما هو عنها بالحديث المرجم
      متى تبعثوها تبعثوها ذميمة.......وتضرى إذا ضريتموها فتضرم
      فتعرككم عرك الرحى بثفالها ......وتلقح كشافاً ثم تنتج فتتئم
      اخي وعزيزي انت ما دام ذكرت العراق ، فأنا اقول ان البحرين تتأثر بالعراق مباشره فلو نظرنا للتاريخ الغابر لكان شفنى كيف ان الاحداث الي حدثت في زمن الهيأه كانت العراق تحدد مفترق الطرق في هذا البلد وانا من شفت العرق تتغير وتيرتها بعد صقوط صدام كلت البحرين على وشك التأثر وان طال الزمان .

    • زائر 12 | 8:02 م

      وطني الغالي

      أخي الفاضل محمد, مقالك رائع وكم نحن بحاجة ماسة في وقتنا هذا لاقلام أمثالك المعتدلين لحماية هويتنا البحرينية التي مزقها المتطرفون المتخبطون الذين يلعبون بالوتر الحساس, نعم نريد إصلاحات في وطننا بطريقة حضارية وراقية ولكن بالشعارات المتخلفة رجعنا أكثر من 16 سنة للوراء, اللهم اصلح حالنا ولم شملنا

    • زائر 9 | 10:00 ص

      وطني الجريح

      يااااااه كم لامس مقالك الجرح،وأذكى المشاعر،لماذا أحس برغبة في الموت؟قلبي يتقطع أنا أرى آلام شعبي لاتنتهي،وما يزيدها ألماً،التشفي في قناتناالتي تعمل جاهدة على تقسيمنا إرباً،أين الرحمة؟أين الضمير؟هل تمكن الحقد منا حتى أصبحنا نرقص على جثث الموتى؟

    • زائر 4 | 2:53 ص

      fyd

      انت مقتنع بهالكلام:
      اسألوا العراقيين كيف قضوا على غرائزهم الطائفية الخ الخ الخ
      بل زادت الطائفية,واصبح الذبح على الهوية,وعلى الأسم,كلامك سيصدقه من يضحك بالمكر,ولن يصدقه من جربها شخصيا,رجاءً احترم عقول من اصابتهم لوثة الطائفية وحب الأنتقام في العراق وكانت بطريقها للتطبيق في البحرين!!!

    • زائر 3 | 2:31 ص

      جرح الوطن

      نحي فيك وطنيتك الحقة في وقت كثر فيه الشامتون فكثر الله من أمثالك

    • زائر 1 | 11:58 م

      آه يا وطن

      ابكيك يا وطني ، ابكي على القاتل و المقتول

اقرأ ايضاً