في طريقك إلى المنزل، عند الثالثة بعد الظهر، تأتيك عدة اتصالات تنصحك بعدم المجيء، بسبب بدء سريان إطلاق النار!
ليس أمامك خيارات، عليك أن تجوب في الشوارع حتى يأتيك اتصالٌ جديدٌ يطمئنك بزوال الخطر ويدعوك للعودة. حاولت أن أغامر قليلاً بدخول المنطقة من الخلف من جهة عين عذاري، أشار لي سائق بأضواء سيارته لأعود من حيث أتيت. المساجد القريبة كانت مغلقة، ووجدت نفسي قريباً من مقر جمعية “الوفاق” بالزنج. اكتشفت أن مؤتمراً صحافياً للجمعيات السياسية سيعقد هنا بعد حين، قلت لنفسي: عصفورين بحجر، استمع لما يقولون من جديد... وانتظر الفرج!
كان عليَّ أن أنتظر إذاً، وأزجي الوقت بالدردشة مع الزملاء الصحافيين. الصحف هذه الأيام تتأخر في صدورها لأسباب أمنية قاهرة، تتعلق بسلامة العاملين فيها، من محررين وصحافيين وعاملي مطبعة وموزعين. كما تصدر في صفحات أقل، فالملاحق الرياضية اختفت وتقلصت إلى صفحتين داخليتين، والصفحات الاقتصادية إلى صفحة واحدة. أصلاً لا رياضة في البلد هذه الأيام، أما الاقتصاد... فالله المستعان.
تأخّر المؤتمر لأكثر من نصف ساعة، ليبدأ عند الخامسة والنصف، وكانت متوقعاً أن تُطلق بعض المواقف على ضوء المستجدات الكبرى. على المنصة، جلس المتحدّثون باسم الجمعيات السبع، وغاب عنهم هذه المرة أمين عام “وعد” إبراهيم شريف، الذي اعتقل الساعة الثانية فجر أمس الخميس (17 فبراير/ شباط 2011)، مع آخرين. كنت قد قرأت قبل ساعتين من مجيئي رسالة ابنته يارا وهي تصف حادثة الاعتقال لحظة بلحظة. ختمتها بالقول: “أبي مسالم ويرفض العنف. إنني فخورة بوالدي لأنه لم يخف أن يقول رأيه، وقد علمنا أن ننطق بالحق وندافع عن الحقوق. أحبك أبي، علمتني أن أكون امرأة قوية”.
ليس من بين مهماتي عادةً تغطية المؤتمرات الصحافية، وغالباً ما تكون تغطياتي القليلة جداً تتعلق بفعاليات خاصة، وأؤديها تطوّعاً، أما هذه المرة فكنت مجبَراً (تقريباً) على البقاء، بفعل أحكام مسيلات الدموع!
استهل المؤتمر بعرض لقطات سريعة لرجالٍ مسلحين بلباس مدني يقومون بمهاجمة الجامعة، وبعضهم بزيّ عسكري يقوم بتكسير سيارات متوقفة، وآخرون مقنّعون ينهالون ضرباً على بعض السواق بعد إخراجهم من السيارات. لم تكن لقطاتٍ جديدةً في مضمونها، فقد عُرض أكثرها على الفضائيات طوال الأربعاء الماضي، من الصباح حتى منتصف الليل، وشاهدها الملايين عبر العالم العربي. لكن أهميتها أنها تقدّم روايةً أخرى تدحض رواية التلفزيون الرسمي المقدمة أساساً لجمهوره المحلي، بعد أن يئس من تحقيق أي نتائج تذكر على المستوى الخارجي.
كان أول المتحدثين أمين عام “الوفاق” الشيخ علي سلمان، الذي قال إنه “بعد يومين داميين سيطرت فيها لغة العسكر والرصاص وشرعية الدبابة والبندقية على الشرعية السياسية ولغة العقل والحوار”. كان واضحاً في دعوته إلى “إيقاف عسكرة البلد، وسحب الجيوش الأخرى والقوات الأمنية”، والعودة إلى “حوار منتج وذي معنى” كما يُعبّر عنه المراقبون الأجانب. كما دعا إلى “الترفّع التام عن التوترات الطائفية، مع التذكير والتأكيد على أنه لم ولن يهجم أي شيعي على أي منطقة سنية، فدماؤنا واحدة، ونحن أبناء وطن ودين واحد”. وطالب بالتحقيق في الأحداث التي وقعت منذ 14 فبراير/ شباط 2011 على يد جهة محايدة، والمعارضة مستعدة للمساءلة عن أية أخطاء ارتكبتها. كان الرجل واقعياً ومنصفاً بما فيه الكفاية.
فاضل عباس (التجمع الوطني الديمقراطي) قدّم عرضاً لتسلسل الأحداث المتسارعة منذ 14 مارس الجاري، وكشف عن تلقي الجمعيات رسالةً عبر وفدين رسمي وشبه رسمي، بأن عدم قبول الحوار وفق السقف المطروح فلن يكون المستقبل جيداً. وهكذا انتهى الاجتماعان بالفشل.
في اليوم التالي (الثلثاء)، اشتدت أعمال ترويع المواطنين على أيدي مسلحين بلباس مدني في الكثير من المناطق، وكان أشدها في سترة. وتلاها الهجوم على دوار اللؤلؤة صباح الأربعاء، ومحاصرة بعض المستشفيات، ومنع الأطباء والطواقم الطبية من ممارسة أعمالها، وتعرض بعضهم للضرب.
حسن مدن (المنبر الديمقراطي)، كشف أن التلويح باقتحام الدوار تكرّر مرات عديدة، وخصوصاً في الأيام الأخيرة، رغم وصول رسائل إيجابية من جهات بحرينية وغير بحرينية بشأن منع الانزلاق للخيار الأمني. واعتبر اعتقال النشطاء السبعة تصعيداً جديداً وجزءاً من المعالجة الأمنية للأزمة، مؤكداً أن هذا النهج لا يحلها، لأنها في الأساس مشكلةٌ سياسيةٌ وليست أمنية ولا طائفية.
حسن العالي (التجمع القومي)، قال إن مطالب الجمعيات مازالت قائمة، وما جرى هو فرضٌ للحل العسكري بدل السياسي، وخسارةٌ للوطن كله، إذ ستضيع سنوات أخرى على طريق تأخير بناء وطن ديمقراطي. أما الشيخ عبدالله الصالح (أمل)، فأشار إلى ما خلقه التدخل العسكري من حركة تضامن واسعة داخلياً وخارجياً، واستقالات جماعية احتجاجاً على المعالجة السيئة للوضع..
المؤتمر كان حافلاً، وربما يستدعي عودة أخرى. وعند نهايته اكتشفت تسع مكالمات فاتتني، تدعوني للعودة بسرعة بعد ثلاث ساعات من إطلاق النار. يبدو أن إعلاناً للهدنة لمدة ساعة واحدة صدر بعد الأذان
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 3115 - الخميس 17 مارس 2011م الموافق 12 ربيع الثاني 1432هـ