العدد 3115 - الخميس 17 مارس 2011م الموافق 12 ربيع الثاني 1432هـ

الشعب يريد...

معجزة يتردد صداها من المحيط إلى المحيط، معجزة، هي هذه الثورة التونسية الشعبية، بالقياس للأوضاع الإنسانية المهينة التي تعيشها المنطقة العربية، وبالمقارنة مع حجم التعب الذي أنهك أرواحنا بسبب طغيان الحكام ونهبهم الخيرات، وطغيان المحكومين وانهيار المنظومة الأخلاقية في المجتمعات، معجزة باعتبار التداعي الاستعماري علينا ثقافياً وعسكرياً، لامتصاص ثرواتنا، ودعم السرطان الإسرائيلي الذي أحدثه في قلب القلب.

هذه الملابسات نفسها، تشكل التحديات الحقيقية لهذه الثورة، التي يستحيل أن يتوقف أثرها على الشعب التونسي وحده، إنه زلزال تنتشر اهتزازاته في منطقتنا التي تمتد حدودها من القهر إلى القهر، كما فيمن يعتبرون أنفسهم «المجتمع الدولي»، الذي مازال يعاني من حالة الصدمة تجاه ما يجري في تونس، والذي تردد صداه مباشرة في صنعاء والقاهرة والجزائر، في زمن انفصمت فيه عروة فلسطين إلى شرقية وغربية، وباتت القضية الشمّاعة التي يعلق عليها الجميع شهواتهم في الالتصاق بالكراسي، ويشهد فيه لبنان «انقلاباً» خطيراً لا يعلم إلا الله ما سيترتب عنه في القريب أو البعيد.

المشهد بالنسبة لمن يسمون أنفسهم «المجتمع الدولي» فظيع!، لأنه يخرج من حساباتهم، ويتمرد على مخططاتهم، ويكاد يفلت من قبضة مصالحهم السرية والعلنية، التي تريد في المنطقة ديمقراطيات تخدم مصالحهم فقط، وليس ديمقراطيات تنمو بإنسانها ومجتمعاتها، والأخطر بالنسبة لهذا المجتمع الدولي فيما يجري، أنه لا فضل له البتة في شيء مما حصل ويحصل ليَدّعي الفضل له فيه!، فالمنطقة التي استولى عليها الغرب بعد انهيار الامبراطورية العثمانية، فاستعبد أهلها ونهب خيراتها، بتواطؤ بعضٍ من مُستبديها، خاصة فيما بعد 11 سبتمبر/ أيلول، بدا أنها غير ميتة ولا مستسلمة، وأن الجيل الجديد المولود في «تيه» الوهن والارتكاس، والتمزق بين الشعارات، خرج لتوه من قمقم الصبر والقهر، وتجاوز الحركات التي عملت طويلاً لبث الروح فيه على اختلاف مشاربها، إسلامية كانت أم قومية أم علمانية، ورفع صوته بشعار «الشعب يريد»، فهو في تونس لم يكتفِ بطرد عصابة السراق، بل يريد تغيير الحكومة وسط ضغوط دولية وعربية هائلة لسرقة ثورته، وفي مصر يريد إسقاط النظام، هكذا... على النهج الذي سنه التونسيون لهذه الأمة الواحدة، بمقاطعاتها الاثنتين والعشرين، الشعب يريد... في اليمن والجزائر، ويريد في سورية وفي الكويت وفي قطر وفي السعودية وفي المغرب، الشعب يريد، وإرادته يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار.

ويتوقف سير الأمور في المرحلة المقبلة نحو تغيير شامل عميق إيجابي، أو دمار وفوضى شاملة، على ذكاء مفرط يجب أن يلوذ به الحكام، خاصة بعد الدرس التونسي البليغ من جهة، ومن الجهة الثانية على ضبط مفرط للنفس في الشارع، فلا يلجأ إلى العنف كائنة ما كانت نية السلطات في هدر دمه.

إن قدرة الشعب على رفع الصوت والتعبير عن إرادته مرتبطة بالدرجة الدنيا من الوعي بالحقوق والواجبات والحريات والكرامة، ولذلك فقد رأينا أن أول بوادر هذه الانتفاضات قد بدأت من الكويت، وأن أول وزير عربي يستقيل في تاريخنا الحديث بسبب وفاة مواطن تحت التعذيب كان وزيراً كويتياً، مرت على استقالته وسائل الإعلام - المشغولة بتلميع البعض على حساب آخرين - مرور الكرام! إنه التحدي الحقيقي الذي ينتظر حكام هذه المنطقة، إن بقي لديهم بقية من وطنية وإنسانية وإخلاص، لأن الوطنية والإخلاص لا تتجليان إلا في مثل هذه المواقف في حياة الأمم، ولقد منحتهم الثورة التونسية فرصة فريدة، ليعيدوا التأمل والتفكير، فلن تأتيهم الثورة بغتة! ولكن باستطاعتهم إن أرادوا أن تصبح خير أيامهم أواخرها، وخير أعمالهم خواتيمها! فيكونوا مع شعوبهم في عملية التغيير الآتية لا محالة فليردوا للشعوب أموالها وكرامتها وحريتها وحقوقها! أو أن يكونوا حيث يكون كل طاغية مستبد في التاريخ.

ومادام الحاكم والمحكوم قد اشتركا في لعبة الفساد والقمع والطغيان في منطقتنا خلال أربعين عاماً، فإن من الممكن كذلك أن يكونا شريكين في عملية التغيير التي بدأت من تونس، والثورة كالحب والحرب، تحتاج كي تنجح إلى طرفين دائماً، قيادات شعبية نزيهة اليد، قوية حازمة واضحة الرؤى والأفكار والمناهج، وشعوب تعرف ما تريد... وطرف ثالث نضيفه إلى معادلتنا خاص بالمنطقة العربية وملابسات الاستبداد فيها، وهو هذه الحكومات التي ارتكبت الجرائم التاريخية بحق العباد والبلاد، والتي من أخطرها استئصال الطبقات القيادية البديلة، لقد حانت ساعة القصاص، فما أجمل التوبة فيها والعودة إلى الشعب، الذي «قد»، وأقول «قد» يتمتع بالعفو عند المقدرة، على طريقة «نلسن مانديلا»

العدد 3115 - الخميس 17 مارس 2011م الموافق 12 ربيع الثاني 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً