يجب طرح إشكالية المراهنة على الجماهير والشارع العربي، طبعاً ليس من منطلق التقليل من أهمية هذه المظاهرات والتحركات، أو من نبل المشاعر التي تثيرها فهذا أضعف الإيمان. لكن ما يجب دراسته هو ضرورة كشف المسكوت عنه في الخطاب الجماهيري السائد، فمن خلال تفحص التجارب العربية يمكن ملاحظة أن معظم الخطابات العربية الجماهيرية تاريخياً كانت مراوغة وتتماشى مع علاقات السيطرة في الواقع السياسي، حيث كان يتم السكوت عن واقع المجتمع اليومي تحت ذريعة إعلاء شأن القضايا القومية والخارجية، حيث لا تبدو الشعوب على شكل مجتمعات أو مواطنين أحراراً، وإنما مجرد أفراد وكتل عشوائية بينما يبدو الشارع مجرد ساحة وبديلاً للإطارات وللتوسطات السياسية، وللتمثيلات الشعبية وللبرلمانات وفي هذا وذاك تحل التحركات الشعبية محل المشاركة السياسية.
فخطاب الجماهير العربية برغم ثورويته الظاهرة وطوباويته، كان يسكت عن حال تغييب المجتمعات ويقصر عن الإجابة عن أسباب عجزها وضعف وعيها لذاتها ولدورها. فهذا الشارع لم يرغب في الذهاب إلى البحث في أسباب قصور التحركات الجماهيرية وأسباب تغييب المجتمعات العربية المستمر، لأن الذهاب للبحث في هكذا مواضع ملحة سيوصلنا إلى التساؤل عن معنى غلبة علاقات السلطة على الدولة في النظام العربي، وإلى واقع إحلال وسائل القوة والسيطرة، محل علاقات المشاركة والتداول والتمثيل؟
إذ في التفاصيل لا بد من الاعتراف بأن خطاب الجماهير كان يتعامل مع القضايا أكثر من تعامله مع البشر وحاجاتهم، فبقاء خطاب الجماهير أسير اللحظات التاريخية، يؤكد عدم نضج الواقع العربي ويدل على واقع السياسة في بلادنا. وعلى الرغم من النكسات والهزائم والإخفاقات العربية السابقة، فإن مراكز صنع القرار ومراكز الأبحاث في البلدان العربية، كانت ولاتزال تفتقد لأي نوع من الأبحاث والمراجعات الناجمة عن ذلك لاستنتاج الدروس والعبر منها. ففي إسرائيل ذات الخطر الاستراتيجي على العالم العربي والمستحضرة دائماً في المقارنات، توجد لديها عشرات مراكز البحث والدراسات ولجان تحقيق يشارك فيها مسئولون وخبراء عسكريون وقانونيون، ومفكرون، تمد صناع القرار الإسرائيلي بالتوجهات والنصائح ولائحة الاحتمالات والخيارات، هكذا هي حال تقارير لجنة «أغرانات» بعد حرب 1973 ولجنة «كاهانا» 1982 وأخيراً لجنة «فينوغراد» بعد حرب يوليو/ تموز وكثير من اللجان الفرعية والمختلفة.
ولكن من الملفت للنظر والمستغرب، أن الكثير من العرب يستشهدون بهذه اللجان من دون أن يتساءلوا أين هي لجاننا وتحقيقاتنا ومراجعتنا ودراساتنا في هزائمنا أو حتى عند انتصاراتنا؟
المسألة إذاً قد تكون في الخيارات والواقع السياسي وليس في أي شيء آخر. وبهذا الصدد، فإن كان أحد أوجه ميزان القوى ممثلاً لمصلحة السلطات العربية، فإن وجهه الآخر حالياً ليس كذلك، وعدم الاستفادة من ذلك الواقع، هو بمثابة ورطة استراتيجية ستؤدي إلى إعادة إدامة الاختلال في ميزان القوى لصالح مبدأ السلطة على حساب مبادئ الدولة والتمثيل والمشاركة. وإلى الاتجاه نحو آفاق غير محسوبة وغير قابلة للضبط، يكون الخاسر الوحيد فيها في المحصلة شعوب الأمة العربية بأسرها وعلى كافة المستويات.
منتهى القول إن واقع الثورات العربية الحالية يعبر ويوضح أن النظام العربي كان مريضاً وغير قادر على المتابعة والإبداع لا في فضائه الإقليمي ولا في باحته الداخلية. لهذا يصح توقع مآسٍ أكثر ترويعاً، إن لم يبادر هذا العالم العربي الرحب إلى تغييرات جوهرية في بنيانه، حيث إن إعادة التقويم تتطلب آلية شاملة تتناول تقويم الحالة السياسية والفكرية والاقتصادية والمعايير السياسية، وطرائق التفكير العربية.
إن هذه الإعادة مطلوبة بشكل عاجل، كل هذا في وقت قد تدفع فيه الشعوب العربية أكلافاً باهظة. فما تكشفه المواجهة من معطيات تؤكد ارتباط عموم الناس في المنطقة العربية بالحرية والمساواة، وذلك رغم سنوات الضباب والشك، فعملية النهوض العربي منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية كانت متعثرة إلى حد تم تحويلها إلى سيرورة خديعة وإخضاع، والصراع على السلطة كان فوق الحد القابل للتجاهل، في ظل واقع عالمي كانت تنتابه دائماً الازدواجية والاضطرابات في المفاهيم والاستراتيجيات.
وتكشف تلك الثورات الحاصلة حالياً في المنطقة العربية عن تطور وعي الشارع السياسي والشعبي في العالم العربي، وتفاعله مع مفاهيم الحرية والديمقراطية. فلقد خسرت الشعوب العربية كثيراً في صراع الحكم والسلطة. والمعضلة، أن سبب هذه الخسارة لم يكن فقط بسبب ضعفهم أو بسبب رجحان ميزان القوى لصالح السلطة والأنظمة الرسمية، وليس بسبب عدم ملاءمة الأوضاع الدولية والإقليمية لتطلعاتهم ومتطلباتهم المشروعة فحسب. وإنما بسبب فوضاهم وتخلف إدارتهم لأوضاعهم، وانقساماتهم وغياب استراتيجية واضحة لهم تتأسس على الواقعية والعقلانية.
وجاءت الثورات والاحتجاجات المتسارعة وإن بوتيرة مختلفة في كل من: تونس، مصر، ليبيا، اليمن، الأردن، المغرب، الجزائر... الخ لتعطي بارقة أمل نحو المواجهة السليمة مع دوائر السلطة. وذلك العمل يتطلب من أجل ديمومته على الشعوب العربية، اعتماد التخطيط والرؤية الواضحة. وقد تكون أولى النتائج المرجوة من هذه الثورات، هو تطوير الفكر والممارسة لدى تلك الشعوب قبل النخب والقيادات
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 3115 - الخميس 17 مارس 2011م الموافق 12 ربيع الثاني 1432هـ