إن أبسط تعريف للثورة هي أنها عمل مفاجئ وواسع النطاق مؤيد من الشعب يسعى لإحداث تغير شامل، سعياً نحو الأفضل في حياة المواطنين. ولعل أعظم ثورة في تاريخ البشرية تلك التي قادها محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب عليه الصلاة والسلام، وهي ثورة غيرت كثيراً من المفاهيم التي كانت سائدة واستطاعت بناء حضارة عظيمة، ولكن هذه الثورة كغيرها من الثورات واجهت إغراء الهدم ومن ثم عجز اتباع محمد عليه الصلاة والسلام عن إقامة صرح تراكمي، فانهارت الحضارة وتراجع المسلمون، وأصبحوا مطمعاً للطامعين عبر العصور اللاحقة، بل وتصارعوا فيما بينهم وأصبح بأسهم بينهم شديداً، لأن الثوار ضد عثمان بن عفان عبروا عن وجود مظالم وأخطاء، بل خروج للسلطة آنذاك عن مفاهيم رئيسة للإسلام، فقتلوا عثمان بن عفان ولم يقدموا بديلاً، وحدث الصراع بين الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب وبنوه وبين معاوية بن أبي سفيان وابنه، وانتهى الأمر بتحول الخلافة بعد ذلك إلى ملك عضوض، وساد الفساد واستخدام القمع من قبل قادة الدول الأموية وأخذ معاوية البيعة لابنه يزيد بحد السيف.
وباقي التاريخ الإسلامي وما فيه من صراعات من الأمور المعروفة، وإن كانت بعض أحداثه وتفسيراتها أدت لمزيد من الاختلاف بين المسلمين، ومن ثم لمزيد من إضعافهم. والثورة الفرنسية دمرت القديم ولم تستقر حتى ما يقرب من مئة عام، أما الثورة الروسية والثورة الصينية فرغم إنجازاتهما كان لهما أخطاء وكوارث كبرى في تاريخ روسيا وتاريخ الصين.
ومن ثم يمكن القول بتجرد إن الثورة الأميركية ضد الاستعمار البريطاني للقارة الأميركية كانت من أكثر الثورات بناء بعد أن حققت الجولة الأولى بالتخلص من الاستعمار البريطاني، ولعل مرجع ذلك ثلاثة عوامل:
الأول: وجود قيادات متعلمة ومثقفة تؤمن بالعمل السياسي القانوني، ولهذا فإن دستورها المكتوب يعد من أعرق الدساتير المكتوبة، وحرص الرؤساء الأميركيون على اختلاف توجهاتهم على عدم المساس به، وإضافة التعديلات التي تواكب المستجدات. ومن هنا كان إعمال مبدأ قدسية المواثيق والمعاهدات والاتفاقات. هذا بخلاف الممارسة في كثير من الدول الأوروبية والآسيوية ما أن تحدث ثورة أو انتفاضة أو حركة تصحيحية أو انقلاب عسكري أو انقلاب بين أجنحة السلطة حتى ينطلق الحكام الجدد في عمل خطير من الهدم، أحياناً يمس أسس الدولة وتاريخ مصر نموذجاً على ذلك، وللأسف فإن عملية البناء اللاحقة بعد فترة من الفوضى اتسمت بالطابع الشخصي والهشاشة الفكرية والمؤسسية، وكان ومازال ذلك أحد عوامل الكوارث التي تلاحقت على مصر المعاصرة.
الثاني: وجود وعي مجتمعي بأن مؤسسات ما قبل الثورة وهياكلها العمرانية أو القانونية أو السياسية أو التراثية هي ملك للمجتمع والشعب، وليست ملكاً للحكام الذين قامت ضدهم الثورة، لأن هذه المؤسسات والعمران والأبنية تم إقامتها من أموال الشعب، ومن ثم فلو دمرت تعبر عن حالة من اللاعقلانية إذ يدمر الإنسان ما يملك وهذا من غير المنطقي ودليل على عدم الرشد وعدم العقلانية.
ولعل التاريخ الإسلامي بوجه عام يسجل انصع الصفحات في الحفاظ على التراث وحضارات الدول التي فتحها وما تبقي حتى الآن في حضارات مصر مثل الأهرام وأبو الهول ومعابد الأقصر وغيرها وفي إيران الفارسية القديمة وفي شبه القارة الهندية من معابد الإمبراطوريات قبل الإسلام وفي أفغانستان حتى أن تمثال بوذا ظل آلاف السنين إلى أن جاء حكم الغوغاء الجهلة من الطالبان فكسروه غير عابئين بمساعي أئمة المسلمين وقادتهم ، نقول إن الحفاظ على ذلك التراث خير شاهد على روح الإسلام الحقيقة وبعده الحضاري وثوريته وليس على شهوة الانتقام والتدمير التي تسود ثورات كثيرة في العديد من الدول في السنوات الأخيرة.
الثالث: التغاضي عن روح ومنطق الانتقام. الأميركيون تعلموا هذا الدرس العظيم، ولكن كان رائد ومعلم هذا الدرس قبل الجميع هو محمد بن عبد الله رسول الإسلام الكريم الذي أعلن قولته المدوية للكفار عندما عاد إلى مكة منتصراً وفاتحاً، فقال لخصومه الذين ناصبوه أشد العداء وعذبوا أصحابه أقسى أنواع العذاب وحاربوه أشد الحروب، قال لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء». ولقد كان الزعيم الجنوب إفريقي نيلسون منديلا أقرب لهذا الفهم والوعي لروح التسامح في طرحه مفهوم «الحقيقة والمصالحة Truth and Reconciliation»، بخلاف الثورات التي أطلقت على نفسها إسلامية، فسادها روح الانتقام ضد خصومها، بل أحياناً ضد أبنائها وما نزال نشهد ذلك في بعض الدول العربية والإسلامية المهمة المجاورة للمنطقة العربية.
لماذا نطرح هذا الأمر على بساط البحث والنقاش اليوم؟
أقول إن دوافعي هي الاقتداء بسيرة أعظم الأنبياء محمد بن عبدالله، وأيضاً المسيح عيسى بن مريم في مقولته: «إذا ضربك عدوك على خدك الأيمن، أدر له خدك الأيسر»، وفي مقولته لتلاميذه: «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر»، ومقولته: «عجبي لمن يرى القذى في عين أخيه ولا يرى الخشبة التي في عينيه».
إننا في مصر نفتخر بمبدأ التسامح والاعتدال في الشخصية المصرية، وأطلقنا على ثورة «انقلاب» 1952م، بأنها ثورة بيضاء لأن الثوار خلعوا الملك فاروق، وتم إعداد اليخت «المحروسة» الخاص به، وقدموا له التحية العسكرية قبل انطلاق اليخت إلى إيطاليا. بل قبلوا استمرار النظام الملكي وتوليه ابنه «أحمد فؤاد» الحكم مع وجود وصي على العرش لصغر سنه وتم خلعه بعد أكثر من عام، ثم إننا نفتخر بأن ثورة 25 يناير هي ثورة بيضاء نظيفة سلمية. ولكن للأسف تحولت ثورة 1952م، إلى شهوة الانتقام بعد سنوات قلائل من حكمها، وانتقمت من خصومها بل ومن أبنائها وقادتها كما حدث مع محمد نجيب وآخرين غيره. وأخشى أن تتحول ثورة 25 يناير لنفس المسلك، إذ إن موقفها من تدمير مباني جهاز أمن الدولة، وهو جهاز له ماله وعليه ما عليه، ولكنه يعنى ثلاثة أمور مترابطة: المبنى وأثاثه، الوثائق، الأفراد وأسلوب العمل.
فالمبنى ملك لشعب مصر، الوثائق جزء من تاريخ مصر، ومن ثم لا يعقل أن تدمر ثورة أو أي شخص عاقل يدمر أملاكه وتاريخه مهما كان فيه من سيئات، بل ينبغي أن يأخذ منها العبرة للأجيال القادمة. وأخيراً، الأفراد وأسلوب العمل وهنا نقول ينبغي التمييز بين الأفراد، وهم مواطنون مصريون بذلوا أقصى جهدهم لخدمة وطنهم، وبين أسلوب عمل اتسم ببعض التجاوزات التي ينبغي إصلاحها وتنظيمها بأسلوب جديد ومن منظور جديد.
الجهاز هو جزء مهم لحماية الوطن، وهو ليس موجوداً في مصر وليس ابتكاراً مصرياً، بل في مختلف دول العالم المعاصر إنه جهاز أمني، إنه ليس سجن الباستيل الذي اعتلاه ثوار الثورة الفرنسية، وإنما هو مبنى ومؤسسة يمكن إصلاح فكر المؤسسة وتغيير أفرادها، ولكن لا يعقل تدمير المبنى وممتلكاته ووثائقه.
هذه ملاحظة اعتقد أنها مهمة تعبر عن الحرص على التنبيه لما اعتقد انه خطأ دون أن يعني ذلك القول إدانة لأي من فصائل ثورة 25 يناير التي قامت بالهجوم على مباني جهاز أمن الدولة، إن الهدف التنبيه من الوقوع في الخطأ إعمالا لسلوك المسلمين الأوائل ولوصية عمر بن الخطاب لقواد جيوشه بالا يدمروا المزروعات ولا المباني ولا بيوت الله ولا يمسوا عابدا أو كاهنا أو راهبا في صومعته . كما إن دعوتي هذه لا تعني إعفاء بعض المسئولين عن الجهاز بحرق وإتلاف العديد من الوثائق التي اعتقدوا أنها تدين إعمالهم الخاطئة والمشينة وغير القانونية
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3113 - الثلثاء 15 مارس 2011م الموافق 10 ربيع الثاني 1432هـ