إن بعض الثوريين المحدثين في عالمنا العربي اليوم تسيطر عليهم ثلاثة أنواع من الشهوات: شهوة الهدم أكثر من البناء، شهوة الانتقام أكثر من التسامح، شهوة القبلية أو الطائفية أو الدين أكثر من شهوة الوطنية والوطن.
هل يمكننا القول للجميع في مصر خاصة، والعالم العربي عامة قليلاً من العقلانية أيها المثقفون وأيها الثوريون، ولم يكن هناك تأثر في التاريخ مثل محمد بن عبدالله (ص) الذي جاء بدين جديد انتشر في العالم، وظل عبر العصور بخلاف كثير من دعاة الثورية الذين جاءوا بفكر محدث، دعا للصراع الطبقي أو الديني أو الطائفي أو القبلي أو الإثني، فمزقت الأوطان ودمرت الدول وانقسمت.
إن الصراع الديني الطائفي المذهبي دمر كشمير كما دمر قبرص، والصراع الديني والسياسي الحزبي دمر فلسطين. إن مهمة المواطن، وعلى الأخص المثقف، هو الدعوة للوحدة الوطنية، ولتطوير المجتمع، وليس تدميره.
إن مصر بعد ثورة 25 يناير/ كانون الثاني، تعاني من نقص الأمن الذي تحدث عنه توماس هوبز لاختفاء الشرطة لخوفهم من اضطهاد الثوار لهم، أو بالأحرى اضطهاد الثوار المغرضين المزيفين، وليس الثوار الحقيقيون الذين لا يمكن أن يفكروا في اضطهاد أحد ولو كان مخالفاً لهم في الرأي انطلاقاً من الإيمان بحرية الرأي ولعلنا نتذكر ثلاث مقولات الأولى في القرآن الكريم عندما تساءل بقوله تعالى: «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين»، والثانية منسوبة لمفكر الثورة الفرنسية فولتير عندما قال أخالفك رأيك ولكنني أدافع حتى الموت عن حقك في إبدائه، والثالثة منسوبة للفقيه المسلم صادق الإيمان والإسلام الإمام الشافعي والذي ينتسب إلى سلالة أهل بيت النبوة والذي قال «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب»، ولعل المبدأ القانوني الديمقراطي بأن إطلاق سراح أكثر من مذنب خير من معاقبة بريء ففي الحالة الثانية يعاني المجتمع، وهي الحالة التي تواجهها جزئياً تونس ومصر، حيث ضعف الرؤية الصحيحة إذ يندفع البعض بالرغبة في تدمير كل ما هو سابق على الثورة، حتى وإن كان صالحاً، لمجرد انتمائه إلى مرحلة ما قبل الثورة، إن الدمار والخراب سهل، ولكن البناء صعب.
ولعلنا نذكر بالحكمة الإلهية النابعة من إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل، وإخراج الحي من الميت والميت من الحي، وهي حكمة تعبر عما عبرت عنه في مرحلة حديثة الفلسفة الديالكتيكية، فالجديد يخرج من أحشاء القديم، وليس من تدميره كاملاً.
إن قليلاً من العقلانية والتفكير أيها الثوار يكفي لتجنب الصراع والدمار والخراب، ولهذا تحدث الثوريون الحقيقيون أمثال لينين عن رفضهم لمفهوم حرق مراحل التطور الاجتماعي والسياسي. كذلك نذكر بالحكمة الإلهية من خلق الكون في ستة أيام ما يعني الحاجة للصبر والتروي والتأني لإنضاج الأمور وكان الله قادراً على أن يخلق الكون في لحظة واحدة إعمالاً لقوله سبحانه وتعالى «إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون» (يس: 82).
إننا نقول لأخوتنا في مصر، إنه ليس كل وزير من عهد مبارك يصبح فاسداً، وليس كل رجل أعمال يصبح منحرفاً، وليس كل ضابط شرطة قام بتعذيب الناس وقمعهم، بالتأكيد هناك وزراء فاسدون، ورجال أعمال منحرفون وسارقون، ورجال شرطة اضطهدوا وعذبوا، ولكن ليس الجميع، فهذه القوى هي أسس بناء المجتمع الحديث وركائز النهضة. ولعل تجربة جنوب إفريقيا بعد تخلصها من النظام العنصري في لجنة الحقيقة والمصالحة، تعد تجربة رائدة، وهو ما فعلته المغرب بدرجة أقل، وهذا ما ينبغي أن يقوم به الثوار المعاصرون في مصر، إن الحذر من الانحراف الثوري ضرورة، ولنا في تجربة الإسلام الصحيح في عهد رسوله الكريم خير نموذج بعيداً عن تفسيرات رجال الدين وعلمائه الذين لهم الاحترام، ولكن ليس لهم السلطة المطلقة التي ينبغي أن تكون لعقولنا، وللفكر الإسلامي الصحيح، كما عبر عنه نبي الإسلام صاحب الدعوة، وجاء في القرآن الكريم «لا تزر وازرة وزر أخرى» (النجم: 38)، فلا عقاب إلا للشخص على جريمة ارتكبها، وليس لفريق أو جماعة حزب، أو طائفة فالجميع شركاء في الوطن الذي له الأولوية وله الولاء قبل أي فكر آخر.
لقد بحث مفكرون حديثون في علم النفس وعلوم الإدارة، عما أسموه «الطاقة الإيجابية» في مقابل الطاقة السلبية، ولذلك فإن مفهوم «ثورة الغضب» ويوم الغضب في الحركات الثورية المعاصرة يعبر عن التوجه السلبي، وأعتقد أن ذلك يمكن أن يكون مرحلة أولى قصيرة تشير لرفض ما هو قائم، والأجدى التعبير عن مفهوم «ثورة البناء»، فهذا هو ما ينبغي أن يتحقق، إن الغاضب دائماً لا يحقق شيئاً لمجتمعه ولا لنفسه، ولهذا أكد القرآن الكريم على مفهوم «الحلم»، وقال النبي عن الشخص القوي «ليس الشديد بالصرعة، ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب»، إنه الحليم، إن المواطن العربي المسلم، والشاب العربي المسلم ما أحراه أن يستعيد تاريخه الزاهر، وفكر نبيه الكريم، بعيداً عن تأويلات السياسيين أو العلماء الغاضبين.
إن مفهوم البناء وليس الغضب هو أساس التقدم، ولم تقم الولايات المتحدة أو أوروبا الحديثة سوى على مفهوم البناء والعمل وليس الغضب والتدمير.
إن الغضب حالة نفسية مؤقتة، وهي إحدى تجليات حالات النفس وتقلباتها، ولكنها إذا تحول الغضب فيها إلى حالة دائمة تصبح مرضاً مزمناً، ولن تحقق الإنجاز.
إن البناء يتحقق باستخدام الطاقات الإيجابية، وليس الطاقات السلبية التي تقود لدمار للنفس ودمار الغير ودمار المجتمع.
إن الثورية تعني استخدام المنطق واللجوء للعلم وإعمال العقل وليست الاندفاع العشوائي والانسياق وراء الشعارات دون تفكير وتأمل ورويّة
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3111 - الأحد 13 مارس 2011م الموافق 08 ربيع الثاني 1432هـ