بدل أن تلعن ظلام القرى المهمَلة... أشعل عشرات الشموع، هذا ما تريد أن تقوله حملة بلدية الشمالية «ارتقاء».
حملة تزيين وتشجير وتنظيف المحافظة الشمالية، بدأت بأربع قرى (سار والقدم والديه وشهركان)، وتعِد بالوصول إلى قرى أخرى حتى الركن الأقصى من الشارع لتشمل البديّع والدراز.
الحملة تقوم على مبدأ الشراكة المجتمعية، وتعتبر المواطن شريكا، فالحي الذي يسكنه، والشارع الذي يعبره، جزء منه. هذا المبدأ ليس اختراعا جديدا، وإنما كان سلوكا عمليا يعيشه الأهالي حتى عهد قريب. والذاكرة ما زالت تحتفظ بصور أمهاتنا بعد الفراغ من أعمالهن المنزلية، يخرجن لتنظيف الشوارع الترابية أمام البيوت، فواجهة المنزل كانت تحسب على أهله. لكن ما كان عمليا في السبعينيات تغيّر مع دخول المرأة سوق العمل، فتضاعفت أعباؤها اليومية، فضلا عن تغيّر الرؤى والمفاهيم.
الحملة اليوم تعيد إحياء ذلك الشعور بالانتماء الحميم للمكان، وعدم الاتكال كليا على خدمات الدولة، فلكل منّا دورٌ في الحفاظ على نظافة منطقته، والمشاركة بما يمكن في مثل هذه المبادرات الإيجابية، من تجميل وتزيين وتشجير وإزالة الأنقاض والمخلفات. الدولة عليها دورٌ حتما في النهوض بمستوى خدماتها، لكن علينا نحن دورٌ أيضا، فكلنا مسئولٌ عن نظافة مناطقنا كما هو مسئول عن نظافة ومظهر بيته، وبدون هذا الشعور لا تتوقّعوا الكثير من تحسّن الخدمات، مع تراجع أسعار النفط والموازنة، وتقليص مخصّصات المجالس البلدية.
التفاعل الذي لاقته الحملة مشجّع جدا، فهناك قرى أخرى طالبت بالمشاركة، وشكّلت فرق عمل متطوعة، لتثبت مرة أخرى وأخرى أن هذا الشعب ولاّدٌ ومبدعٌ ومحبٌ لكل خير، ومستعدٌ لتجاوز كل الآلام.
قبل شهرين، كانت جدحفص والديه والسنابس مناطق احتكاكات أمنية دائمة، وكثيرا ما كانت تتعطّل حركة المرور بسبب الصدامات بين مجاميع صغيرة من الشباب وقوات الأمن. وعند الإشارة تعطّل المرور ذات يوم، فشهدت الطرفين يتقاذفان الحجارة ومسيل الدموع. أما الأسبوع الماضي فقد تحوّل هذا الشارع نفسه إلى خلية نحل، حيث احتشد عشرات الفنانين من أبناء هذه المناطق وسواها، لرسم جداريات أضفت على الشارع العام لمسات جمالية رائعة.
في هذا الشارع نفسه، رأيت الكثير من المناظر والأعمال التي لا تسرّ الصديق، حين يقوم أفرادٌ معدودون، مهما كانوا ومهما كانت مطالبهم، بحرق الحاويات والإطارات وإغلاق الشارع وتعطيل مصالح الناس خصوصا ليالي الإجازة الأسبوعية. وكنت أنتفض رعبا كلما فكّرتُ في احتمال أن تعبر سيارةٌ فوق إطارٍ مشتعل، فيتسبب أي خلل أو تسرّب في الزيت أسفلها إلى كارثة. هذا الشارع عاد بوجهٍ آخر أكثر إشراقا وشعورا بالمسئولية الاجتماعية والانتماء للمكان.
عاد هذا الشارع من جديد ليقدّم ردا عمليا وموضوعيا، على الطروحات العنصرية الأخيرة، التي تقدّم التبريرات النظرية لسياسات التمييز والإقصاء دون خجل أو حياء، والتي تروّج لمقولات متخلّفة، بالتركيز على ثنائية «القرى والمدن»، (إخراجٌ آخر لنظرية «نحن وأنتم»)، وكأننا نعيش في خارج درب التبّانة، وليس في عالمٍ تحوّل إلى قريةٍ صغيرةٍ متداخلة الشوارع والطرقات.
إن حملة «ارتقاء» خير ردٍّ على تلك المقالات والنظريات العنصرية التي يروّجها البعض، حتى وصل شططها إلى الدعوة لإخضاع «أهل القرى» كمادةٍ خامٍ لتجارب الأكاديميين والحقوقيين العنصريين المستوردين.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2447 - الإثنين 18 مايو 2009م الموافق 23 جمادى الأولى 1430هـ