خطوتان إصلاحيتان وعد بهما الملك المغربي والرئيس اليمني. العاهل محمد السادس أشار إلى تعديلات في الدستور تعطي صلاحيات لرئيس الوزراء وتعزز دور المحافظات والمجالس المحلية في مجالات التنمية. والرئيس علي عبدالله صالح أعطى وعده بأن يغير الدستور في نهاية السنة الجارية ويعزز صلاحيات السلطة التشريعية (مجلس النواب) حتى تصبح في موقع تشرف منه على الرئاسة وتراقب أنشطة السلطة التنفيذية.
الخطوتان مهمتان قياساً بالوضع السابق لأنهما تفسحان المجال لإعادة هيكلة الدولة من خلال ترتيب البناء الهرمي في إطار دستوري يوسع من قاعدة المشاركة في صنع القرار وتحمل المسئوليات بإعادة توزيع المهمات على قوى اجتماعية تتحرك ميدانياً على الأرض وخارج المظلة الرسمية.
الانفتاح الدستوري المدروس جاء متأخراً كما ذكرت بيانات وتصريحات قوى الاعتراض في اليمن. فالأحزاب التي تخوض معركة عرض عضلات في العاصمة ومدن المحافظات وجدت في تراجعات السلطة خطوات غير كافية ولا تلبي حاجات الشارع ومتطلباته. بينما القوى المعارضة في المغرب تجاوبت نسبياً مع التعديل الدستوري معتبرة الخطوة تلبي الحد الأدنى من الطموحات لكنها تحتاج إلى توضيحات ترتب آليات الانتقال السلس إلى مرحلة متقدمة في شكل توزيع الصلاحيات بين السلطات المكلفة بالإشراف والمراقبة.
اختلاف ردود الفعل على وعود الإصلاحات بين المغرب واليمن يعكس مدى درجة التطور الدستوري في البلدين. النظام اليمني تأسس على قاعدة الجري السريع الذي بدأ بانقلاب عسكري على السلطة الأمامية ما أدى إلى انقسام اليمن إلى جمهوري وملكي ودخول البلاد في حرب أهلية مدمرة أحدثت تجاذبات إقليمية واستقطابات دولية انتهت إلى نوع من الاستقرار القلق الذي أنتج توافقات أعطت الجيش صلاحيات استثنائية في إدارة السلطة وأزماتها.
النظام الجمهوري في اليمن جاء على قاعدة الانقلاب العسكري وتورط في الحرب الأهلية وبعدها استقر في إطار أزمة كان من الصعب احتواء مضاعفاتها من دون الانزلاق مجدداً في انقلابات متبادلة واغتيالات أخذت بالانتشار والتمدد من الشمال إلى الجنوب. جنوب اليمن لم يكن أفضل إذ شهد بعد خروج بريطانيا من البلاد سلسلة توترات أهلية تسبب بها تسلط الحزب الواحد على المقدرات وتحكمه بالمناطق والقبائل ما شجع على تثوير الانقسامات الموروثة وانتقالها لاحقاً إلى رفاق الحزب الواحد وانجرارهم نحو معارك جزئية أدت إلى انهاك الأجنحة الإيديولوجية وتبعثرها إلى معسكرات مناطقية وقبلية.
تهالك اليمن في شماله وجنوبه شجع على نمو فكرة الوحدة بين الشطرين والاندفاع نحوها من دون دراسة دقيقة للثغرات التي تهدد الدولة الوليدة بالفوضى وعدم الاستقرار. الوحدة، وهي خطوة جيدة تاريخياً، تحولت إلى نوع من سياسة الهروب إلى الأمام التي توهمت أن الاندماج نهاية المطاف وليس بداية جولة تتطلب الكثير من الجهد لضمان استمرارها الطبيعي ومن دون مطبات.
المطبات الوحدوية أخذت بالنمو في ظل سلطة عسكرية انقلابية اعتمدت النظام الجمهوري مظلة لنسج علاقات أهلية تتحكم بها تحالفات عصبية قبلية وجهوية. وأدى تراكم الثغرات إلى توسيع هوة التفاوت بين الشمال والجنوب وظهور دعوات الانقسام والعودة إلى الوراء، ما أعطى ذريعة للتصادم بين وحدويين وانفصاليين وانزلاق البلاد إلى حرب مدمرة انتهت بإعادة هيكلة وحدة قهرية على أسس مضطربة لا تعرف الهدوء والاستقرار.
الوحدة القهرية كانت أسوأ من الاختيارية. فالأخيرة اعتمدت إيديولوجية الهروب إلى الأمام والأولى لجأت إلى القوة بوصفها الإطار الحديد الذي يضبط المناطق والقبائل تحت سلطة الجيش ومظلته القبلية الممتدة عبر شبكات تقليدية ساهم رجال العشائر في ترتيب قنواتها وتحالفاتها. كذلك كانت الوحدة القهرية محكومة بالتوازنات الإقليمية والفضاءات الدولية وهرمية التحالفات القبلية والمناطقية. وبسبب هذه الاعتبارات الحساسة في وظائفها ومهماتها لم تنجح السلطة في استثمار الانتصار العسكري على قوى الانفصال وتطويره باتجاه هيكلة دستور الدولة ليكون متناسباً مع حاجات المرحلة الجديدة.
إصرار قوى الوحدة على عسكرة النظام وتقليص الحياة المدنية وحصرها في دائرة التحالفات القبائلية - الجهوية التقليدية وضع سلطة صنعاء في منطقة الزلازل وعزلها عن محيطها المحلي حين تعرضت دول الجوار إلى اهتزازات أمنية سواء في جانب الصومال والسودان أو في جانب الحرب الأميركية على العراق.
مشاهد التقويض وتبعثر الصومال إلى دويلات والعراق إلى مراكز قوى متجاذبة أو متضاربة ساهمت في زيادة قوة الضغط على صنعاء وأعطى فرصة للقوى المتضررة أو غير المستفيدة من الوحدة «القهرية» بان تبحث عن هامش للاستقلال عن المركز. المتغير الدولي والإقليمي والجواري الذي زعزع الاستقرار في المحيط انعكس على اليمن وتمدد إلى داخل يعاني من أثقال تحالفات لا تقوى على تحمل ضغوط متشعبة في مصادرها ومنابتها القبلية والجهوية.
الوضع في المغرب مختلف كلياً في تكوينه الاجتماعي وتوازناته العصبية وتحالفاته وهيكله الدستوري وتراتبه الهرمي. السلطة الملكية تقليدية ومتوارثة وتتَّبع نهج الجري الهادئ، وهي تكتسب شرعيتها من دستور واضح في وظائفه التشريعية وخصائص كل موقع في بناء الدولة. وبسبب انتظام قنوات العلاقة بين صاحب الأمر (السلطة) والقوى المدنية والأحزاب السياسية والمجموعات الأهلية يستطيع رأس الدولة إعادة هيكلة الدستور في سياق اتفاق إطار يتمتع بآليات مرنة تساعد على توزيع الصلاحيات وتعزيز مهمات الوزراء والمحافظات والمجالس المحلية واستيعاب المطالب الحقوقية والاجتماعية.
طبيعة السلطة الوراثية في المغرب واختلافها عن المنظومة السلطوية العسكرية (الانقلابية) في اليمن لعبت دورها في صوغ ردود الفعل الإيجابية واختلافها عن تلك السلبية في صنعاء. فالأولى تجاوبت نسبياً مع التعديل الدستوري الذي يعطي صلاحيات معقولة تقوي من دور الوزراء والمحافظات والمحليات وذلك لأن العلاقة بين الحاكم والناس تأسست تقليدياً على قاعدة التوريث والمنفعة والثقة، بينما الثانية اعتبرت الوعود الإصلاحية بشأن الدستور اليمني متأخرة وغير كافية لأن العلاقة بين السلطة والجمهور قائمة على قاعدة انقلابية تجمع بين الجمهورية والتوريث الأسري على أساس شبكة من التحالفات الظرفية التي تتعرض دائماً للاختبار والتسويات المؤقتة.
خطوتان دستوريتان إصلاحيتان يرجح أن تلقى الأولى في المغرب النجاح بحكم طبيعة السلطة المرنة وتجاربها المتراكمة في نسج علاقات مع قوى الاعتراض تمثلت في تطويع نسبة المشاركة من دون فوضى عارمة، بينما يرجح أن تلقى الثانية في اليمن الفشل بسبب خصوصية سلطة عسكرية لا تمتلك تجربة قادرة على تطويع الصلاحيات بما يتناسب مع حاجات جماعات أهلية متفرقة في أمزجتها وأهدافها
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 3109 - الجمعة 11 مارس 2011م الموافق 06 ربيع الثاني 1432هـ
القشّة التي قصمت ظهر البعير,
اقتباس:
((الانفتاح الدستوري المدروس جاء متأخراً كما ذكرت بيانات وتصريحات قوى الاعتراض في اليمن))
فعلاً .. هذا التأخير هو مما أدّى لإفشال الخطوة اليمنية.