سمعنا عن الفنون الأدبية كالشعر بأنواعه والرواية والنثر والمقالة وغيرها، ولكن ما هو الفن الأدبي الذي يمكن أن نصف به الكتابة الإلكترونية؟ فلقد اقتحم العالم صنف جديد من الإبداع تمثل في كتابة نصوص قصيرة، تختلط بين الفكر والأدب، يبثها الناس عبر أثير الأسلاك ليفاجئنا بعضهم بروعتها وبلاغتها وعمق معانيها.
لقد بدأت الشبكات الاجتماعية، كفيسبوك وتويتر، تعيد الحياة للكتابة الأدبية التي شحّت من الساحة الشعبية العربية. فلقد اعتدنا منذ سنوات طويلة على احتكار الأدباء والنخب للفنون الأدبية التي لم يكن حظ القارئ منها إلا متابعتها دون أن يتمكن من قول رأيه فيها، ناهيك عن عدم قدرته على البوح بما يضجّ في داخله من إبداع قد يرقى بعضه لأعمال الأدباء المتمرسين، وذلك لعدم توفر المكان والوسيلة. إلا أن الشبكات الاجتماعية، وتويتر على وجه الخصوص، قد بدأ بإسقاط جُدُرِ برلين الثقافية بين الناس وبين الإبداع، ودفع بالجميع لقول ما يريدون وبأي صيغة يريدون. وإذا كنتَ مِن المغردين على تويتر، فلابد بأنك تقرأ كل يوم مئات التغريدات التي يكتبها من تعرف ومن لا تعرف، إلا أنك لا تهتم بهوية الكاتب، وكل ما يهمك هو ما يكتب فقط، فأحياناً، تُطلّ عليك فتاةٌ مراهقة بِدُرَرٍ من الكلام يعجز عنها كاتب معروف، والعجيب في الأمر أن هذه التغريدات المقتضبة قد صارت وِرْداً يومياً لرواد الموقع الذي يوشك أن يصل عدد مشتركيه إلى مئتي مليون شخص بحسب ما ورد في تقرير لصحيفة «نيويورك تايمز»، التي قالت أيضاً إن عدد المشتركين في تويتر يزداد نصف مليون إنسان كل يوم.
في تويتر يتّبعكُ الناس لإبداعِكَ لا لملّتك، وهو المكان الوحيد الذي ينصت إليك الناس فيه حتى وأنت تفكّر، لأنهم يتوقعون منك أن تقول شيئاً جديداً أو متميزاً كل يوم. لقد دفعنا هذا الموقع البسيط إلى صقل مهاراتنا البحثية والكتابية حتى نُعرف من بين الآخرين، وأجبرنا أن نعيد قراءة أشياء كثيرة لنتأكد من صحة ما نقول، فلا يكاد أحدنا يخطئ في معلومة أو في كلمة، حتى ينبري له من المصححين ما لا طاقة له على مقاومته.
إن أجمل ما في تويتر أنه يختزل الكلام في 140 حرفاً، وأياً كانت مكانتك، فإنك لن تُمنحَ حرفاً إضافياً، مما جعل الناس تلجأ إلى القاموس مرة أخرى لتعيد صياغة الجملة عدة مرات حتى تتناسب مع مساحة المكان. أتساءل كيف يمكن لمئة وأربعين حرفاً أن تستنزف المشاعر الإنسانية وتزعزع مكامن النفس بالطريقة التي تفعلها حروف تويتر! وكيف يمكنها أن تثير عاصفة هوجاء من الرأي والرأي الآخر، وتشعل ثورات مليونية، في حيّز ضيّق نختلس النظر إليه من هواتفنا المتحركة! لابد أنها إحدى أعاجيب العالم الجديد، وأقصد به العالم الإلكتروني، فلقد قال لي أحد المغردين مرة: «إنني أعيش الآن حياتين، حياتي هذه التي أحياها، وحياة أخرى على تويتر».
لقد تحول تويتر إلى إحدى أدوات «القوة الناعمة Soft Power» حيث يسعى مشاهير العالم وقادته للوصول إلى أكبر شريحة بشرية من خلاله، ولم يعد وسيلة للتسلية فقط، بل أصبح حقيقة كالتلفاز والسينما والكتب والصحف، يؤثر في المجتمع ويساهم في بناء مفاهيمه ومبادئه. فمن خلال تويتر يمكن للمرء أن يلِجَ إلى عقول صناع القرار وليس إلى غرف اجتماعاتهم فقط، ويمكنه أيضاً أن يُنشأ توجهات ذوقية جديدة في الفن والأدب والموسيقى والرياضة وغيرها من جوانب الحياة المتغيرة. إنه لغة جديدة قوامها مئة وأربعون حرفاً، لا شكل لها ولا وصف، وكل ما يبدو منها هو العدد 140. تساءلتُ مرة عن نوع هذا الأدب الجديد، فقال لي المغرد فارس البَرَكاني: «دعنا ندعوه أدب 140» وما أجمله من اسم يختزلُ الحياة في مئة وأربعين حرفاً، أو رُبّما يعيد صياغتها في مئة وأربعين حرفاً فقط.
إن الأدب لا يُصنَّف ولا يُصنِّف، وكذلك هو تويتر، لأنه يجعل الناس سواسية كأسنان المشط، والبقاء فيه للأجمل وللأرقى وللأكثر علماً وإبداعاً، ولا مكان فيه للقوة أو للمنصب أو للقبيلة. إنه يعيد إلى أذهاننا مكانة الأدب الذي يكتنف الإنسان بدفئه، ويقوده من تلابيبه إلى واحات سماوية من الانسجام مع نبض الكلمات وتدفق المعاني في أوصال النصوص. فالأدب الحقيقي هو الذي يسمو بصاحبه عن الدركات ويصعد به الدرجات، وهو الذي يكافح فقر الأخلاق، ويدفع عن القلوب رذيلة الحسد، ويصد عن العقول نوائب الجهل.
إن أدباء تويتر هم نوع جديد من الأدباء، صغارٌ في أعمارهم كبارٌ في أعمالهم، يقولون أقل مما يعرفون، ويقبلون النقد ولا يتوقفون عنده كثيراً، وعلى الباحثين عن أدباء عرب جدد أن يبحثوا عنهم بين هذه الحروف المقتضبة، ثم يدفعوهم للتغريد أكثر لكي يصقلوا مواهبهم الكتابية التي يبدو أنها تجتمع لتشكل الهدوء الذي يسبق عاصفة أدبية نأمل أن تجتاح الساحة الثقافية العربية خلال سنوات قليلة. فكل يوم يُطالعني أحد المغردين الشباب قائلاً «أريدُ أن أكتب رواية» ومع مرور الوقت، يزداد عدد الباحثين عن الكلمة الجميلة، والمتذوقين للمعاني العذبة. وأكاد أزعم بأننا سنرى قريباً أسماء جديدة تلمع في سماء الأدب العربي، الذي ليس بالضرورة أن يكون نسخة عن الأدب الكلاسيكي، ولكن لا يضر أن يكون امتداداً له، فالأدب عملية تراكمية، تتسع وتزداد غزارة باتصال المبدع وتأثره بأعمال من سبقه.
إن هؤلاء الأدباء الشباب من الجنسين هم إحدى الآمال التي يجب أن نُراهن عليها في عالمٍ مُتْخمٍ بالفقر والأمية، فالأمّة التي تزخر بالأدباء أمّة لا تموت ولا تضلّ الطريق. فالأديب هو السراج الذي يضيء خارجه أكثر مما يضيء داخله، وهو أيضاً من يردّ الجميل حتى وإن لم يحصل عليه
إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"العدد 3109 - الجمعة 11 مارس 2011م الموافق 06 ربيع الثاني 1432هـ
هواية و تنفيس
مقال جميل ايها الفاضل .. ياسر
كثير من يمتلك ذائقة أدبية قد تنميها بعض المواقع كـ تويتر أو غيره .. لكن ليس بالضروري ان يكون الهدف الشهرة وتلميع الاسماء ..
قد تكون هواية أو تنفيس بما تكتظ به الصدور ..
مقال رائع ..
بنت الزعابي .
sumayah..
مقال أكثر من رائع , شكرآ لك ولإبداعك .
فعلا ( أدب140) جعلني أغير من طريقه تفكيري وكلامي حتى.!
رحاب السُّلمي
اشهد بما كتبت , فتويتر اثبت لي قدرتي على التلخيص واختيار المفردات والبحث في المعاني والمرادفات .. وجعلني اتفنن أكثر في صياغةالجمل واخراجها لأنها ستكون محسوبة علي ..
وأجمل مافيه انك تتخصص فيه , فتتابع من لهم نفس الاهتمامات..
فتطور وتشارك وتتعارف وتمزج بهذا حياتك بنقلك لمعلوماتك وتفيد وتستفيد وتصنع كوكتيل على مزاجك لطالما تشتهيه وتقضي به وقتك ~
الزين
من اجمل ما كتب عن عالم تويتر الفسيح